الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                      ( باب حد المحاربين ) وهو جمع محارب اسم فاعل من حارب يحارب من الحرب قال ابن فارس الحرب اشتقاقها من الحرب بفتح الراء وهو مصدر حرب ماله ، أي سلبه والحرب : المحروب ( وهم قطاع الطريق ) أي ( المكلفون الملتزمون ) من مسلم وذمي ( ولو أنثى ) لأنها تقطع في السرقة فلزمها حكم المحاربة كالرجل ( الذين يعرضون للناس بسلاح ولو بعصا وحجارة ) لأن ذلك من جملة السلاح فإن لم يكن معهم سلاح فليسوا [ ص: 150 ] محاربين لأنهم لا يمنعون من قصدهم ( في صحراء أو بنيان أو بحر ) لعموم الآية ولأن ضررهم في المصر أعظم فكانوا بالحد أولى ( فيغصبونهم مالا ) بخلاف الخمر ونحوه ( محترما ) لا صليبا ومزمارا ونحوهما ( قهرا مجاهرة ) والأصل فيهم قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية : قال ابن عباس وأكثر العلماء : نزلت في قطاع الطريق من المسلمين لقوله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } والكفارة تقبل توبتهم بعد القدرة عليهم وقبلها وعن ، ابن عمر أنها نزلت في المرتدين لأن سبب نزولها قضية العرنيين ( فإن أخذوا ) المال ( مختفين فهم سراق ) لأنهم لا يرجعون إلى منعة وقوة فليسوا محاربين .

                                                                                                                      ( وإن خطفوه وهربوا فمنتهبون لا قطع عليهم ) لأنهم ليسوا قطاع طريق لما مر ( وإن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا فليسوا بمحاربين لأنهم لم يرجعوا إلى منعة وقوة وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم محاربون ) يثبت لهم حكمهم ( ويعتبر ثبوته ) أي قطع الطريق ( ببينة ) أي شهادة رجلين عدلين ( أو إقرار مرتين ) كسرقة ذكره القاضي وغيره ( فمن كان منهم ) أي من قطاع الطريق ( قد قتل ) قتيلا ( لأخذ ماله ولو ) كان القتل ( بمثقل أو سوط أو عصا ولو ) قتل ( غير من يكافئه كمن قتل ولده أو ) قتل ( عبدا أو ذميا وأخذ المال قتل حتما ) أي وجوبا للآية ( بالسيف في عنقه ) لحديث : { إذا قتلتم فأحسنوا القتلة } ( ولو عفا عنه ولي ) المقتول لأنه لحق الله تعالى فلا يسقط بعفو الولي ( ثم صلب المكافئ ) لمقتوله ( دون غيره بقدر ما يشتهر ) به لأن المقصود منه زجر غيره ولا يحصل إلا به والأصل في ذلك ما روى الشافعي بسنده عن ابن عباس إذا قتلوا وأخذوا المال صلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض وروي نحوه مرفوعا وقدم القتل على الصلب لأنه مقدم عليه في الآية وفي صلبه حيا تعذيب .

                                                                                                                      وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان ( ثم ينزل ويدفع إلى أهله فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن ) كغيره من المسلمين ( فإن مات ) قاطع الطريق ( قبل قتله لم يصلب ) لأنه لا فائدة في صلبه إذن لأن الصلب إنما وجب ليشتهر أمره في القتل في المحاربة وهذا لم يقتل في المحاربة ( ولا يتحتم استيفاء جناية توجب [ ص: 151 ] القصاص فيما دون النفس ) .

                                                                                                                      فإذا قطع قاطع الطريق طرفا لم يتحتم استيفاؤه والخيرة للمجني عليه لأن القتل إنما يتحتم لأنه حد المحارب إذا كان قاتلا فأما الطرف فإنما يستوفى هنا قصاصا لا حدا فيكون حكمه كغير المحارب فإذا عفا ولي القود وسقط لذلك ( إلا إذا كان قتل ) قال في الإنصاف ولا يسقط تحتم القود في الطرف إذا كان قد قتل على الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب انتهى قال في المحرر والمبدع ولا يسقط مع تحتم القتل على الروايتين انتهيا وكذا في شرح المنتهى ولا يسقط مع تحتم قتل لكن يمكن عود الضمير للقود في الطرف أي لا يسقط القود في الطرف بتحتم القود في النفس لا أنه لا يسقط التحتم في الطرف لأن المذهب أنه لا يتحتم بخلاف ما توهمه عبارة الإنصاف .

                                                                                                                      ولذلك قال في التنقيح ولا يتحتم استيفاء الجناية فوجب القصاص فيما دون النفس وتبعه في المنتهى وظاهرهما مطلقا ( وحكمها ) أي الجناية فيما دون النفس ( حكم الجناية في غير المحاربة ) إذا كان قد قتل ( فإن جرح إنسانا وقتل آخر اقتص منه للجراح ثم قتل للمحاربة حتما فيهما ) وعلى ما في التنقيح والمنتهى يتحتم القصاص في النفس فقط وولي الجراح بالخيار ( وردء ) للمحارب وهو المساعد والمعين له عند احتياجه إليه كمباشر ( وطليع ) وهو الذي يكشف للمحاربين حال القافلة ليأتوا إليها ( في ذلك ) القتل ( كمباشر ) كما في جيش المسلمين إذا دخلوا دار الحرب وباشر بعضهم القتال وأخذ المال ووقف الباقون للحفظ والحراسة ممن يدهمهم من ورائهم أو أرسل الإمام عينا ليتعرف أحوال العدو فإن الكل يشتركون في الغنيمة وذكر أبو الفرج السرقة لذلك .

                                                                                                                      ( وإذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل في حق جميعهم ) أي جميع المكلفين منهم ( فيجب قتل الكل ) لأن حكم الردء حكم المباشر ( وإن قتل بعضهم وأخذ المال بعضهم قتلوا كلهم ) وجوبا ( وصلب المكافئ ) لمقتوله كأن القتل والأخذ صدرا من الكل ( فإن كان فيهم ) أي المحاربين ( صبي أو مجنون لم يسقط الحد عن غيرهما ) كما لو اشترك مكلف وغيره في شرب ونحوه بخلاف ما لو اشتركا في القتل لأنه لم يتمحض عمدا عدوانا ( ولا حد عليهما ) أي الصغير والمجنون لحديث { رفع القلم عن ثلاث } ( وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما ودية قتيلهما على عاقلتهما ) كما لو أتلفا مالا أو قتلا في غير المحاربة ( ولا شيء ) أي لا حد ( على ردئهما ) لأن الردء يتبع المباشر قال في شرح المنتهى فيضمن الردء المكلف ما باشر أخذه غير المكلف ( وإن كان فيهم ) أي [ ص: 152 ] المحاربين ( امرأة ثبت لها حكم المحاربة ) كالرجل لعموم الأدلة وكالسرقة ( فمتى قتلت أو أخذت المال ثبت لها حكم المحاربة في حق من معها كهي لأنهم ردؤها ) فيكونون كالمباشرين .

                                                                                                                      ( وإن قطع أهل الذمة على المسلمين الطريق وحدهم أو مع المسلمين انتقض عهدهم ) كما تقدم في أحكام الذمة ( وحلت دماؤهم وأموالهم ) يعني أن الإمام يخير فيهم كالأسرى بين القتل والرق والمن والفداء فإن قتلوا فمالهم فيء كما تقدم في آخر أحكام الذمة فإن خيف لحوقهم بدار الحرب قبل بلوغ الإمام فلكل أحد قتلهم وأخذ ما معهم كما يأتي في المرتد .

                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                      الخدمات العلمية