الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة عن محمد بن فضيل عن يزيد بن أبي زياد قال : رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى يشرب نبيذ الجر بعد أن يسكن غليانه - يزيد بن أبي زياد ضعيف . ومن طريق ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن الأعمش عن الحكم عن شريح أنه كان يشرب الطلاء الشديد - وهذا يخرج على أنه لفيف جدا - فلو كانت حراما ما خفي ذلك على من سلف ؟ قال أبو محمد : وهذا في غاية الفساد ; لأنهم يقولون بوضع الأيدي على الركب في الصلاة ، وقد خفي ذلك على ابن مسعود [ أبدا ] . ويقولون : بأن يتيمم الجنب إذا لم يجد الماء ، وقد خفي ذلك على عمر بن الخطاب ، وابن مسعود . وقد خفي على الأنصار قول النبي صلى الله عليه وسلم { الأئمة من قريش } حتى ذكروا به - والأمر هنا يتسع ، وليس كل صاحب يحيط بجميع السنن . وقالوا أيضا : قد صح الإجماع على تكفير من لم يقل بتحريم الخمر ، ولا يكفر من [ ص: 193 ] لم يحرم ما سواها من الأنبذة المسكرة ؟ قال أبو محمد : وهذا لا شيء لأنه لو وجدنا إنسانا غاب عنه تحريم الخمر فلم يبلغه لما كفرناه في إحلالها حتى يبلغ إليه الأمر ، فحينئذ إن أصر على استحلال مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر ، لا قبل ذلك . وكذلك مستحل النبيذ المسكر وكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمه لا يكفر من جهل ذلك ولم تقم عليه الحجة به - فإذا ثبت ذلك عنده ، وصح لديه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ذلك فأصر على استحلال مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر ولا بد ، ولا يكفر جاهل أبدا حتى يبلغه الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغه وثبت عنده فحينئذ يكفر إن اعتقد مخالفته عليه السلام ، ويفسق إن عمل بخلافه غير معتقد لجواز ذلك . قال الله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } . قال أبو محمد : فسقط كل ما شغب به أهل هذه المقالة ، وأيضا : فإنه ليس في شيء مما أوردوا كله أوله عن آخره ولا لفظة واحدة موافقة لقولهم : أن الخمر المحرمة ليست إلا عصير العنب فقط دون نقيع الزبيب ، وكذلك أيضا ليس في شيء منه ولا كلمة واحدة موافقة لقول من قال : إن الخمر المحرمة ليست إلا نقيع الزبيب الذي لم يطبخ ، وعصير العنب إذا أسكر . فصح أنهما قولان فاسدان مبتدعان خارجان عن كل أثر ثبت أو لم يثبت وبالله تعالى التوفيق

                                                                                                                                                                                          . والقول الخامس : هو الذي روي عن أبي حنيفة عن طريق محمد بن رستم عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - وهو الذي ينصره المتأخرون من مقلديه - على أن ذلك التفسير لا يحفظ عن أبي حنيفة وإنما هو من آرائهم الخبيثة - والمحفوظ عن أبي حنيفة هو ما ذكره محمد بن الحسن في الجامع الصغير في كلامه في العتق الذي بين كلامه في الكراهة وكلامه في الرهن قال محمد : أنا يعقوب عن أبي حنيفة قال : الخمر قليلها وكثيرها حرام في كتاب الله ، والسكر عندنا حرام مكروه ونقيع [ ص: 194 ] الزبيب عندنا إذا اشتد وغلى عندنا حرام مكروه - والطلاء ما زاد على ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فهو مكروه ، وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به - وكان يكره دردي الخمر أن يشرب وأن تمتشط به المرأة ولا يحد من شربه إلا أن يسكر فإن سكر حد . هذا نص كلامهم هنالك ، ودردي الخمر هو العكر الذي يعقد منها في قاع الدن . وهو خمر بلا شك ، فاعجبوا لهذا الهوس وأما رواية محمد بن رستم عن محمد بن الحسن فإنما هي - : قال محمد : قال أبو حنيفة : الأنبذة كلها حلال إلا أربعة أشياء : الخمر ، والمطبوخ إذا لم يذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، ونقيع التمر فإنه السكر ، ونقيع الزبيب . ولا خلاف عن أبي حنيفة في أن نقيع الدوشات عنده حلال وإن أسكر ، وكذلك نقيع الرب وإن أسكر - : والدوشات من التمر ، والرب من العنب . وقال أبو يوسف : كل شراب من الأنبذة يزداد جودة على الترك فهو مكروه وإلا أجيز بيعه ووقته عشرة أيام ، فإذا بقي أكثر من عشرة أيام فهو مكروه ، فإن كان في عشرة أيام فأقل فلا بأس ، به - وهو قول محمد بن الحسن . هذا كلامهم في الأصل الكبير ، ثم رجع أبو يوسف إلى قول أبي حنيفة ; . وقال محمد بن الحسن : ما أسكر كثيره مما عدا الخمر أكرهه ولا أحرمه . فإن صلى إنسان وفي ثوبه منه أكثر من قدر الدرهم البغلي بطلت صلاته وأعادها أبدا فاعجبوا لهذه السخافات لئن كان تعاد منه الصلاة أبدا فهو نجس ، فكيف يبيح شرب النجس ؟ ولئن كان حلالا فلم تعاد الصلاة من الحلال ؟ ونعوذ بالله من الخذلان . قال أبو محمد : فأول فساد هذه الأقوال أنها كلها أقوال ليس في القرآن شيء يوافقها ولا في شيء من السنن ، ولا في شيء من الروايات الضعيفة ، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا صحيح ولا غير صحيح ، ولا عن أحد من التابعين ، ولا عن أحد من خلق الله تعالى قبل أبي حنيفة ، ولا أحد قبل أبي يوسف في تحديده عشرة الأيام فيا لعظيم مصيبة هؤلاء القوم في أنفسهم إذ يشرعون الشرائع في الإيجاب والتحريم والتحليل من ذوات أنفسهم ثم بأسخف قول وأبعده عن المعقول ؟ [ ص: 195 ] قال علي : وبقي مما موه به مقلدو أبي حنيفة أشياء نوردها إن شاء الله تعالى ونذكر بعون الله تعالى فسادها ، ثم نعقب بالسنن الثابتة في هذه المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم . قال علي : قالوا : قال الله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } . وقال تعالى : { كلوا واشربوا } . فاقتضى هذا إباحة كل مأكول ومشروب فلا يحرم بعد هذا إلا ما أجمع عليه أو جاء من مجيء التواتر ، لأنه زائد على ما في القرآن . قال أبو محمد : من هنا بدءوا بالتناقض وما خالفناهم قط لا نحن ولا أحد من المسلمين في أنه لم يحرم الخمر ، ولا الخنزير ، ولا الميتة حتى نزل تحريم كل ذلك ، فلما نزل التحريم حرم ما نزل تحريمه وهم أول من حرم نبيذ ثمر النخيل بخبر من أخبار الآحاد غير مجمع عليه ولا منقول نقل التواتر . ثم قالوا : صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة } فالخمر لا تكون إلا منهما هذا كل ما موهوا به ، ولا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم قاطعة . وهذا خبر رويناه من طرق كلها ترجع إلى الأوزاعي ، ويحيى بن أبي كثير قالا جميعا : نا أبو كثير أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة } . أبو كثير اسمه يزيد بن عبد الرحمن . قال علي : فافترقوا في خلافه على وجهين - : فأما الطحاوي فإنه قال : ليس ذكره عليه السلام النخلة مع العنبة بموجب أن يكون الخمر من النخلة بل الخمر من العنبة فقط قال : وهذا مثل قول الله تعالى : { مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } . [ ص: 196 ] قال : فإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من أحدهما - : قال : ومثل قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } قال : وإنما الرسل من الإنس لا من الجن . قال أبو محمد : صدق الله وكذب الطحاوي ، وكذب من أخبره بما ذكر بل اللؤلؤ والمرجان خارجان من البحرين اللذين بينهما البرزخ فلا يبغيان ، ولقد جاءت الجن رسل منهم بيقين ، لأنهم بنص القرآن متعبدون موعودون بالجنة والنار . وقد صح ما روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا قتيبة نا إسماعيل هو ابن جعفر - عن العلاء هو ابن عبد الرحمن - عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { فضلت على الأنبياء بست } فذكر منها { وأرسلت إلى الخلق كافة } . ومن طريق البخاري نا محمد بن سنان العوفي نا هشيم أنا سيار نا يزيد هو ابن صهيب الفقير أنا جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : { أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي } فذكر فيها { وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة } .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية