الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وروينا ذلك أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد ، وموسى بن طلحة بن عبيد الله - وهو قول ابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وابن المنذر .

                                                                                                                                                                                          واختلف فيها عن الليث ، وأجازها أحمد ، وإسحاق إلا أنهما قالا : إن البذر يكون من عند صاحب الأرض وإنما على العامل البقر ، والآلة ، والعمل - وأجازها بعض أصحاب الحديث ، ولم يبال من جعل البذر منهما .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : في اشتراط النبي صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر أن يعملوها بأموالهم : بيان أن البذر والنفقة كلها على العامل ، ولا يجوز أن يشترط شيء من ذلك على صاحب الأرض ; لأن كل ذلك شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ، فإن تطوع صاحب الأرض بأن يقرض العامل البذر ، أو بعضه أو ما يبتاع به البقر ، أو الآلة ، أو ما يتسع فيه [ ص: 52 ] من غير شرط في العقد فهو جائز ; لأنه فعل خير ، والقرض أجر وبر - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          واتفق أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وأبو سليمان على جواز كراء الأرض ، واختلفوا فيه أيضا ، وفي المزارعة فأجاز كل من ذكرنا - حاشا مالكا وحده - كراء الأرض بالذهب ، والفضة ، وبالطعام المسمى كيله في الذمة - ما لم يشترط أن يكون مما تخرجه تلك الأرض - وبالعروض كلها .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك بمثل ذلك ، إلا أنه لم يجز كراء الأرض بشيء مما يخرج منها ، ولا بشيء من الطعام ، وإن لم يخرج منها : كالعسل ، والملح ، والمري ، ونحو ذلك ، وأجاز كراءها بالخشب والحطب وإن كانا يخرجان منها - وهذا تقسيم لا نعرفه عن أحد قبله ، وتناقض ظاهر - وما نعلم لقوله هذا متعلقا ، لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا رواية سقيمة ، ولا من قول متقدم ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه - يعني استثناءه العسل ، والملح ، وإجازته الخشب ، والحطب .

                                                                                                                                                                                          ومنع أبو حنيفة وزفر إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يزرع فيها بوجه من الوجوه - وقال مالك : لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج الأرض ، إلا أن تكون أرض وشجر ، فيكون مقدار البياض من الأرض ثلث مقدار الجميع ، ويكون السواد مقدار الثلثين من الجميع ، فيجوز حينئذ أن تعطى بالثلث والربع والنصف على ما يعطى به ذلك السواد .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي : لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج إلا أن يكون في خلال الشجر لا يمكن سقيها ولا عملها إلا بعمل الشجر وحفرها وسقيها ، فيجوز حينئذ إعطاؤها بثلث ، أو ربع أو نصف على ما تعطى به الشجر .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو بكر بن داود : لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها إلا أن تعطى هي والشجر في صفقة واحدة فيجوز ذلك حينئذ .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : حجة جميعهم في المنع من ذلك { نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعطاء الأرض بالنصف ، والثلث ، والربع } ؟ قال علي : ولسنا نخارجهم الآن في ألفاظ ذلك الحديث بل يقول : نعم ، قد صح [ ص: 53 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ ، قال : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ، فإن أبى فليمسك أرضه } وهذا نهي عن إعطائها بجزء مما يخرج منها ، لكن فعله عليه السلام في خيبر هو الناسخ على ما بينا قبل .

                                                                                                                                                                                          فأما أبو حنيفة فخالف الناسخ وأخذ بالمنسوخ .

                                                                                                                                                                                          وأما مالك ، والشافعي ، وأبو سليمان : فحيرهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر فأخرجوه على ما ذكرنا عنهم وكل تلك الوجوه تحكم .

                                                                                                                                                                                          ويقال لمن قلد مالكا : من أين لكم تحديد البياض بالثلث ؟ ولم يأت قط في شيء من الأخبار تحديد ثلث ، ولا دليل عليه ، ومثل هذا في الدين لا يجوز .

                                                                                                                                                                                          ويقال لهم : ماذا تريدون بالثلث ؟ أثلث المساحة أو ثلث الغلة أم ثلث القيمة ؟ فإلى أي وجه مالوا من هذه الوجوه قيل لهم : ومن أين خصصتم هذا الوجه دون غيره ؟ والغلة قد تقل وتكثر ، والقيمة كذلك وأما المساحة فقد تكون مساحة قليلة أعظم غلة أو أكثر قيمة من أضعافها .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فإن خيبر لم تكن حائطا واحدا ، ولا محشرا واحدا ، ولا قرية واحدة ، ولا حصنا واحدا ، بل كانت حصونا كثيرة باقية إلى اليوم لم تتبدل منها الوطيح ، والسلالم ، وناعم ، والقموص ، والكتيبة ، والشق ، والنطاة ، وغيرها - وما الظن ببلد أخذ فيه القسمة مائتا فارس وأضعافهم من الرجال فتمولوا منها وصاروا أصحاب ضياع فمن أين لمالك تحديد الثلث ؟ وقد كان فيها بياض لا سواد فيه ، وسواد لا بياض فيه ، وبياض سواد ، فما جاء قط في شيء من الآثار تخصيص ما خصه .

                                                                                                                                                                                          فإن قال : قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الثلث ، والثلث كثير .

                                                                                                                                                                                          قلنا : نعم ، وأنتم جعلتم في هذه المسألة الثلث قليلا بخلاف الأثر - ثم يقال لهم وللشافعي : من أين لكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أعطى أرض خيبر بنصف ما يخرج منها ; لأنها كانت تبعا للسواد ؟ وهل يعلم هذا أحد إلا من أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عن نفسه ، وإلا فهو غفلة ممن قاله وقطع بالظن ؟ وأما بعد التنبيه عليه فما هو إلا الكذب البحت عليه صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وإنما الحق الواضح فهو أنه عليه السلام أعطى أرضها بنصف ما يخرج منها من [ ص: 54 ] زرع وأعطى نخلها وثمارها كذلك ، فنحن نقول : هذا سنة ، وحق أبدا ، ولا نزيد ، ونعلم أنه ناسخ لما تقدمه مما لا يمكن الجمع بينهما بظاهرهما .

                                                                                                                                                                                          وكذلك أيضا يقال لمن قال بقول أبي بكر بن داود سواء بسواء ، والعجب أن بعضهم قال : المخابرة مشتقة من خيبر ، فدل أنها بعد خيبر .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ولو علم هذا القائل قبيح ما أتى به لاستغفر الله تعالى منه ، ولتقنع حياء منه ، أما علم الجاهل أن خيبر كان هذا اسمها قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن المخابرة كانت تسمى بهذا الاسم كذلك ، وأن إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بنصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر كان إلى يوم موته عليه السلام ، واتصل كذلك بعد موته عليه السلام ؟ فكيف يسوغ لذي عقل أو دين أن يقول : إن نهيه عليه السلام عن المخابرة كان بعد ذلك ؟ أترى عهده عليه السلام أتانا من الآخرة بعد موته عليه السلام بالنهي عنها ؟ أما هذا من السخف ، والتلوث ، والعار ممن ينسب إلى العلم ، ويأتي بمثل هذا الجنون ؟ فصح يقينا كالشمس أن النهي عن المخابرة وعن إعطاء الأرض بما يخرج منها كان قبل أمر خيبر بلا شك - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          واحتج المجيزون للكراء بحديث ثابت بن الضحاك { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال : لا بأس بها } .

                                                                                                                                                                                          وبالخبر الذي رويناه من طريق مسلم نا إسحاق - هو ابن راهويه - نا عيسى بن يونس نا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثني حنظلة بن قيس الزرقي قال : سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة ؟ فقال : لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات ، وأقبال الجداول وأشياء من الزرع ، فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به ، وهذان خبران صحيحان .

                                                                                                                                                                                          وبما روينا من طريق البخاري : نا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - نا سفيان - هو ابن عيينة [ ص: 55 ] قال عمرو - هو ابن دينار - : قلت لطاوس : لو تركت المخابرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها فما يزعمون ؟ فقال لي طاوس : إن أعلمهم - يعني ابن عباس - أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ، ولكن قال : { لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما } وهذا أيضا خبر صحيح . وبخبر رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن الوليد بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير قال : قال زيد بن ثابت : يغفر الله لرافع بن خديج ، أنا والله أعلم بالحديث منه ، { إنما أتاه رجلان قد اقتتلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : فقلنا لهم : أما حديث زيد فلا يصح ، ولكنا نسامحكم فيه فنقول : هبكم أنه قد صح فإن رافعا لا يثبت عليه الوهم بمثل هذا ، بل نقول : صدق زيد ، وصدق رافع ، وكلاهما أهل الصدق والثقة ، وإذ حفظ زيد في ذلك الوقت ما لم يسمعه رافع فقد سمع رافع أيضا مرة أخرى ما لم يسمعه زيد ، وليس زيد بأولى بالتصديق من رافع ، ولا رافع أولى بالتصديق من زيد ، بل كلاهما صادق .

                                                                                                                                                                                          وقد روى النهي عن الكراء جملة للأرض : جابر ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد ، وابن عمر ، وفيهم من هو أجل من زيد .

                                                                                                                                                                                          ثم نقول لهم : إن غلبتم هذا الخبر على حديث النهي عن الكراء فغلبوه على النهي عن المخابرة ، ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          وهكذا القول في حديث ابن عباس ; لأنه يقول : لم ينه عنه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول جابر ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد ، وابن عمر : نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل صادق ، وكل إنما أخبر بما عنده . [ ص: 56 ] وابن عباس لم يسمع النهي ، وهؤلاء سمعوه ، فمن أثبت أولى ممن نفى ، ومن قال : إنه علم أولى ممن قال : لا أعلم .

                                                                                                                                                                                          وأما خبر حنظلة بن قيس عن رافع ، فالذي فيه إنما هو من كلام رافع - يعني قوله - : وأما شيء مضمون فلا ؟ وقد اختلف عن رافع في ذلك كما أوردنا قبل ، وروى عنه سليمان بن يسار النهي عن كرائها بطعام مسمى فلم أجزتموه ؟ ورواية حنظلة عن رافع شديدة الاضطراب وعلى كل حال فالزائد علما أولى .

                                                                                                                                                                                          وقد روى عمران بن سهل بن رافع ، وابن عمر ، ونافع ، وسليمان بن يسار ، وأبو النجاشي وغيرهم : النهي عن كري الأرض جملة عن رافع بن خديج خلاف ما روى عنه حنظلة ، وكلهم أوثق من حنظلة فالزائد أولى .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث أمر بالمؤاجرة فنعم ، هو صحيح ، وقد صح نهيه صلى الله عليه وسلم وخبر الإباحة موافق لمعهود الأصل ، وخبر النهي زائد ، فالزائد أولى ، ونحن على يقين من أنه صلى الله عليه وسلم حين نهى عن الكراء فقد حرم ما كان مباحا من ذلك بلا شك ، ولا يحل أن يترك اليقين للظن ، ومن ادعى أن الإباحة التي قد تيقنا بطلانها قد عادت فهو مبطل وعليه الدليل ، ولا يجوز ترك اليقين بالدعوى الكاذبة ، وليس إلا تغليب النهي ، فبطل الكراء جملة ، والمخابرة جملة ، أو تغليب الإباحة ، فيثبت الكراء جملة ، والمخابرة جملة ، كما يقول أبو يوسف ، ومحمد ، وغيرهما .

                                                                                                                                                                                          وأما التحكم في تغليب النهي في جهة ، وتغليب الإباحة في أخرى بلا برهان فتحكم الصبيان ، وقول لا يحل في الدين - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما قول مالك : فإن مقلديه احتجوا له بحديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رافع بن أسيد بن ظهير عن أبيه قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض ؟ قلنا : يا رسول الله إذا نكريها بشيء من الحب ؟ قال : لا ، قال : نكريها بالتبن ؟ فقال : لا : قال : [ ص: 57 ] وكنا نكريها على الربيع الساقي ؟ قال : لا ، ازرعها ، أو امنحها أخاك } .

                                                                                                                                                                                          وبحديث مجاهد ، قال رافع : { نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتقبل الأرض ببعض خرجها } .

                                                                                                                                                                                          وبما رويناه من طريق عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار أن رافع بن خديج قال : إن بعض عمومته أتاهم فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى } .

                                                                                                                                                                                          وبما رويناه من طريق أحمد بن شعيب نا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم نا عمي قال : نا أبي عن محمد بن عكرمة عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال : { كان أصحاب المزارع يكرون مزارعهم في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكون على السواقي من الزرع فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصمون ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك وقال : أكروا بالذهب ، والفضة } .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا من طريق عبد الملك بن حبيب عن ابن الماجشون عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال : { أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض بالذهب ، والورق } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سفيان بن عيينة نا يحيى بن سعيد الأنصاري نا حنظلة بن قيس الزرقي أنه سمع رافع بن خديج يقول : { كنا نقول للذي نخابره : لك هذه القطعة ولنا هذه القطعة نزرعها فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأما بورق فلم ينه } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض [ ص: 58 ] فهو يزرعها أو رجل منح أرضا فهو يزرعها أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما الحديث الأول - فسنده ليس بالنير ، ثم لو صح لكان حجة لنا عليهم لا حجة لهم ; لأن الذي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو النهي عن كراء الأرض جملة ، والمنع من غير زريعتها من قبل صاحبها ، أو من قبل من منحها ، وهذا خلاف قولهم .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث مجاهد عن رافع - فلا خلاف في أنه لم يسمعه من رافع ، ثم لو صح لكان فيه النهي عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها ، وهو خلاف لقولهم من قبل أنهم يمنعون من كرائها بالعسل ، والملح ، وليسا مما يخرجان منها ، ويجيزون كراءها بالحطب ، والخشب ، وهما من بعض ما يخرج منها ، فقد خالفوه من وجهين فزادوا فيه ما ليس فيه وأخرجوا منه ما فيه وأيضا - فإن الذهب ، والفضة من بعض ما يخرج من الأرض ، وهم يجيزون الكراء بهما ، وبالرصاص والنحاس - وكل ذلك خارج منها .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : إنما منع النبي عليه السلام من كرائها بما يخرج من تلك الأرض بعينها ؟ قلنا : هاتوا دليلكم على هذا التخصيص ، وإلا فلفظ الخبر على عمومه ، فسقط قولهم جملة في هذا الخبر .

                                                                                                                                                                                          ثم أيضا - فنحن نقول بما فيه ثم نستثني منه ما صح نسخه بيقين من إعطائنا الأرض بجزء مما يخرج منها مسمى ، ونمنع من غير ذلك فهو حجة لنا لا لهم .

                                                                                                                                                                                          وأما خبر سليمان بن يسار : فعليهم لا لهم ; لأن فيه أن يزرعها أو يزرعها فقط .

                                                                                                                                                                                          وهكذا روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني زياد بن أيوب نا ابن علية نا أيوب - هو السختياني - عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج أن رجلا من عمومته قال لهم : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحاقل بالأرض أو نكريها بالثلث [ ص: 59 ] والربع والطعام مسمى ، وأمر رب الأرض أن يزرعها ، أو يزرعها ، وكره كراءها ، وما سوى ذلك } .

                                                                                                                                                                                          وأما خبر حنظلة عن رافع - : فقد ذكرنا أنه من قول رافع - يعني قوله : فأما بورق فلم ينه - وقد صح عن رافع ما ذكرنا أنه من قول رافع قبل من نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك حتى أبطل كراء أرض بني أبيه بالدراهم وهذه الرواية أولى لوجوه - :

                                                                                                                                                                                          أحدها - أنها مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك موقوفة على رافع .

                                                                                                                                                                                          والثاني - أن هذه غير مضطرب فيها ، وتلك مضطرب فيها على رافع .

                                                                                                                                                                                          وثالثها - أن الذين رووا عموم النهي عن رافع : ابن عمر ، وعثمان ، وعمران ، وعيسى ابنا سهل بن رافع ، وسليمان بن يسار ، وأبو النجاشي ، وكلهم أوثق من حنظلة بن قيس - فسقط تعلقهم بهذا الخبر .

                                                                                                                                                                                          وأما خبر سعد بن أبي وقاص فأحد طريقيه عن عبد الملك بن حبيب الأندلسي - وهو هالك - عن عبد الملك بن الماجشون وهو ضعيف .

                                                                                                                                                                                          والأخرى - من طريق محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة وهو مجهول لا يدرى من هو - فسقط التعليق به .

                                                                                                                                                                                          وأما خبر طارق عن سعيد عن رافع فإن ابن أبي شيبة رواه كما أوردنا عن أبي الأحوص فوهم فيه ، لأننا رويناه من طريق قتيبة بن سعيد ، والفضل بن دكين ، وسعيد بن منصور ، كلهم عن أبي الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج قال { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة ، وقال : إنما يزرع ثلاثة : رجل له أرض فهو يزرعها ، أو رجل منح أرضا فهو يزرع ما منح ، أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة } فكان هذا الكلام مخزولا عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن ابن أبي شيبة أنه من جملة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخزله وأبقى السند .

                                                                                                                                                                                          وقد جاء هذا الخبر عن طارق من طريق من هو أحفظ من أبي الأحوص مبينا أنه من كلام سعيد بن المسيب - : كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن علي نا محمد نا سفيان عن طارق قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول لا يصلح من الزرع غير ثلاث ، أرض تملك رقبتها ، أو منحة ، أو أرض بيضاء تستأجرها بذهب أو فضة . [ ص: 60 ] قال علي : وأيضا - فلو صح أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لكانوا مخالفين له لأن فيه النهي عن كراء الأرض إلا بذهب ، أو فضة ، وأنتم تبيحونها بكل عرض في العالم حاشا الطعام ، أو ما أنبتت الأرض فقد خالفتموها كلها .

                                                                                                                                                                                          فإن ادعوا ههنا إجماعا من القائلين بكراء الأرض بالذهب والفضة ، على أن ما عدا الذهب والفضة كالذهب والفضة - فما يبعد عنهم التجاسر والهجوم على مثل هذا : أكذبهم ما رويناه من طريق سعيد بن منصور نا أبو الأحوص عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لا تكرى الأرض البيضاء إلا بالذهب والورق - وهذا إسناد صحيح جيد .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قسنا على الذهب والفضة ما عداهما ؟ قلنا : فقيسوا إعطاءها بالثلث والربع على المضاربة .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قد صح النهي عن ذلك ؟ قلنا : فقد صح النهي عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ ، ونص عليه السلام على أن ليس له إلا أن يزرعها صاحبها أو يمنحها أو يمسك أرضه فقط .

                                                                                                                                                                                          فظهر فساد هذا القول جملة ، وأنهم لم يتعلقوا بشيء أصلا ، واعلموا أنه لم يصح كراء الأرض بذهب أو فضة عن أحد من الصحابة إلا عن سعد وابن عباس - وصح عن رافع بن خديج ، وابن عمر ، ثم صح رجوع ابن عمر عنه ، وصح عن رافع المنع منه أيضا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فلم يبق إلا تغليب الإباحة في كرائها بكل عرض وكل شيء مضمون من طعام أو غيره ، والثلث والربع كما قال سعد بن أبي وقاص وأبو يوسف ; ومحمد بن الحسن ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وغيرهم .

                                                                                                                                                                                          أو تغليب المنع جملة ، كما فعل رافع بن خديج ، وعطاء ، ومكحول ، ومجاهد ، والحسن البصري ، وغيرهم .

                                                                                                                                                                                          أو أن يغلب النهي حيث لم يوقن أنه نسخ ويؤخذ بالناسخ إذا تيقن ، كما فعل ابن عمر ، وطاوس ، والقاسم بن محمد ، ومحمد بن سيرين ، وغيرهم .

                                                                                                                                                                                          فنظرنا في ذلك فوجدنا من غلب الإباحة قد أخطأ ، لأن معهود الأصل في ذلك هو [ ص: 61 ] الإباحة على ما روى رافع وغيره { أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليهم وهم يكرون مزارعهم } وقد كانت المزارع بلا شك تكرى قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد مبعثه ، هذا أمر لا يمكن أن يشك فيه ذو عقل ، ثم صح من طريق جابر ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، ورافع ، وظهير البدري وآخر من البدريين ، وابن عمر { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض جملة } فبطلت الإباحة بيقين لا شك فيه .

                                                                                                                                                                                          فمن ادعى أن المنسوخ قد رجع ، وأن يقين النسخ قد بطل ، فهو كاذب مكذب ، قائل ما لا علم له به ، وهذا حرام بنص القرآن إلا أن يأتي على ذلك ببرهان ، ولا سبيل له إلى وجوده أبدا ، إلا في إعطائها بجزء [ مسمى ] مما يخرج منها ، فإنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بخيبر بعد النهي بأعوام ، وأنه بقي على ذلك إلى أن مات عليه السلام .

                                                                                                                                                                                          فصح أن النهي عن ذلك منسوخ بيقين ، وأن النهي عما عدا ذلك باق بيقين ، وقال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فمن المحال أن ينسخ حكم قد بطل ونسخ ثم لا يبين الله تعالى علينا أنه قد بطل ، وأن المنسوخ قد عاد ، وإلا فكأن الدين غير مبين - وهذا باطل - وبالله تعالى التوفيق . فارتفع الإشكال والحمد لله كثيرا .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية