الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1464 - مسألة : ولا يحل بيع شيء بأكثر مما يساوي ولا بأقل مما يساوي إذا اشترط البائع أو المشتري السلامة إلا بمعرفة البائع والمشتري معا بمقدار الغبن في ذلك ورضاهما به ، فإن اشترط أحدهما السلامة ووقع البيع كما ذكرنا ، ولم يعلما قدر الغبن ، أو علمه ، غير المغبون منهما ولم يعلمه المغبون : فهو بيع باطل ، مردود ، مفسوخ ، أبدا ، مضمون على من قبضه ضمان الغصب وليس لهما إجازته إلا بابتداء عقد .

                                                                                                                                                                                          فإن لم يشترطا السلامة ولا أحدهما ، ثم وجد غبن على أحدهما ولم يكن علم به ، فللمغبون إنفاذ البيع أو رده ، فإن فات الشيء المبيع رجع المغبون منهما بقدر الغبن - وهو قول أبي ثور ، وقول أصحابنا إلا أنهم قالوا : لا يجوز رضاهما بالغبن أصلا .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة ، ومالك .

                                                                                                                                                                                          والشافعي : لا رجوع للبائع ولا للمشتري بالغبن في البيع - كثر أو قل .

                                                                                                                                                                                          وذكر ابن القصار عن مالك : أن البيع إذا كان فيه الغبن مقدار الثلث فإنه يرد . [ ص: 360 ]

                                                                                                                                                                                          برهان صحة قولنا - : قول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } .

                                                                                                                                                                                          ولا يكون التراضي ألبتة إلا على معلوم القدر ، ولا شك في أن من لم يعلم بالغبن ولا بقدره فلم يرض به - فصح أن البيع بذلك أكل مال بالباطل . وقوله تعالى { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم } فحرم عز وجل الخديعة .

                                                                                                                                                                                          ولا يمتري أحد في أن بيع المرء بأكثر ما يساوي ما باع ممن لا يدري ذلك : خديعة للمشتري ، وأن بيع المرء بأقل مما يساوي ما باع ، وهو لا يدري ذلك : خديعة للبائع ، والخديعة حرام لا تصح .

                                                                                                                                                                                          وما روينا عن أبي داود أنا أحمد بن حنبل أنا سفيان بن عيينة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعاما فسأله كيف تبيع ؟ فأخبره ، فأوحى الله تعالى إليه أن أدخل يدك فيه ، فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من غش } .

                                                                                                                                                                                          وقال عليه السلام : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة ؟ قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولرسوله ، ولكتابه ، وللأئمة ، ولجماعة المسلمين } . [ ص: 361 ]

                                                                                                                                                                                          { ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش في البيع } : برهان صحيح على قولنا ههنا ; لأنه نهى بذلك عن الغرور - والخديعة في البيع جملة ، بلا شك يدري الناس كلهم : أن من أخذ من آخر فيما يبيع منه أكثر مما يساوي بغير علم المشتري ولا رضاه ، ومن أعطاه آخر فيما يشتري منه أقل مما يساوي بغير علم البائع ولا رضاه فقد غشه ولم ينصحه ، ومن غش ولم ينصح فقد أتى حراما .

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } .

                                                                                                                                                                                          فصح أنه باطل مردود بنص أمره عليه السلام ، وهو قول السلف - : كما روينا من طريق حماد بن زيد أنا أيوب ، وهشام - هو ابن حسان - كلهم عن محمد بن سيرين : أن رجلا قدم المدينة بجوار فنزل على ابن عمر فذكر الحديث - وفيه أنه باع جارية من ابن جعفر ، ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن غبنت بسبعمائة درهم ، فأتى ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر فقال : إنه غبن بسبعمائة درهم فإما أن تعطيها إياه وإما أن ترد عليه بيعه ؟ فقال ابن جعفر : بل نعطيها إياه - فهذا ابن جعفر ، وابن عمر : قد رأيا رد البيع من الغبن في القيمة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن يونس بن عبيد عن رجل عن جرير بن عبد الله البجلي : أنه ساوم رجلا بفرس فسامه ، فسامه الرجل خمسمائة درهم إن رأيت ذلك ؟ فقال له جرير : فرسك خير من ذلك ، ولك ستمائة حتى بلغ ثمانمائة ، وهو يقول : إن رأيت ذلك ؟ فقال جرير : فرسك خير من ذلك ، ولك ستمائة حتى بلغ ستمائة حتى بلغ ثمانمائة ، وهو يقول : إن رأيت ذلك ؟ فقال جرير : فرسك خير من ذلك ، ولا أزيدك ؟ فقال له الرجل : خذها ؟ فقيل له : ما منعك أن تأخذها بخمسمائة ؟ فقال جرير : لأنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نغش أحدا ; أو قال : مسلما - وعن ابن عمر ليس لي غش . [ ص: 362 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن زبيد اليامي عن ميسرة عن ابن عمر وقد ذكرناه قبل في " باب ما لا يتم البيع إلا به من التفرق " .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سفيان بن عيينة أنا بشر بن عاصم الثقفي سمع سعيد بن المسيب يحدث عن أبي بن كعب أن عمر بن الخطاب ، والعباس بن عبد المطلب تحاكما إليه في دار كانت للعباس إلى جانب المسجد أراد عمر أخذها ليزيدها في المسجد ، وأبى العباس ، فقال أبي بن كعب لهما : لما أمر سليمان ببناء بيت المقدس كانت أرضه لرجل فاشتراها سليمان منه ، فلما اشتراها قال له الرجل : الذي أخذت مني خير أم الذي أعطيتني ؟ قال سليمان : بل الذي أخذت منك ؟ قال : فإني لا أجيز البيع فرده ، فزاده ، ثم سأله ؟ فأخبره ، فأبى أن يجيزه - وذكر الحديث .

                                                                                                                                                                                          فهذا أبي يورد هذا على سبيل الحكم به بحضرة عمر بن الخطاب ، والعباس رضي الله عنهم فيصوبان قوله - فهؤلاء عمر ، وابنه ، والعباس ، وعبد الله بن جعفر ، وأبي ، وجرير ، ولا مخالف لهم من الصحابة رضي الله عنهم : يرون رد البيع من الخديعة في نقصان الثمن عن قيمة المبيع .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن إسرائيل عن جابر عن القاسم بن عبد الرحمن أنه رد البيع من الغلط ، ولم يرده الشعبي وقال : البيع خدعة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : والعجب كله من أقوال الحاضرين من خصومنا فإنهم يردون البيع من العيب يحط من الثمن يوجد فيه ; لأنه عندهم غش ، ثم يجيزون البيع وقد غش فيه بأعظم الغش ، وأخذ فيه منه ، أكثر من ثمنه ، هذا عجب جدا وتناقض سمج .

                                                                                                                                                                                          وعجب آخر : وهو أنهم يردون البيع من العيب يوجد فيه ، وإن كان قد أخذه المشتري بقيمته معينا ، ولا يردون البيع إذا غبن البائع فيه الغبن العظيم ، فلا ندري من أين وقع لهم هذه العناية بالمشتري ؟ وهذا الحنق على البائع ، إن هذا لعجب لا نظير له ؟

                                                                                                                                                                                          وعجب ثالث : وهو أنهم - نعني المالكيين ، والشافعيين - يحجرون على الذي يخدع في البيوع حتى يمنعوه من العتق ، والصدقة ، ومن البيع الصحيح الذي لا غبن فيه ويردون كل ذلك ، وهم ينفذون مع ذلك تلك البيوع التي غبن فيها ولا يردونها ، فلئن [ ص: 363 ] كانت تلك البيوع التي خدع فيها حقا وجائزة فلأي معنى حجروا عليه من أجلها وهي حق وصحيحة ؟

                                                                                                                                                                                          ولئن كانت تلك البيوع التي خدع فيها باطلا وغير جائزة فلأي معنى يجيزونها ، إن هذه لطوام فاحشة ، وتخليط سمج ، وخلاف مجرد لكل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ذكر له منقذ ، وأنه يخدع في البيوع فلم يحجر عليه ، لكن أمره أن يقول : " لا خلابة " عند البيع ، وجعل له الخيار ثلاثا في إنفاذ البيع أو رده ، فأبطل عليه السلام : " الخلابة " وأنفذ بيوعه الصحاح والتي يختار إنفاذها بعد المعرفة بها ، ولم يحجر عليه - وهذا عكس كل ما يحكمون به - وحسبنا الله ونعم الوكيل .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية