الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وما عدا الأنواع المذكورة فمختلف فيه ، أيقع فيه الربا أم لا ؟

                                                                                                                                                                                          والربا من أكبر الكبائر قال تعالى { : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى { : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم أنا هارون بن سعيد الأيلي أنا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { اجتنبوا السبع الموبقات قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم أنا عثمان بن أبي شيبة أنا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن المغيرة بن مقسم أنا إبراهيم - هو النخعي - عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود قال { لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 403 ] قال أبو محمد : فإذا أحل الله تعالى البيع وحرم الربا فواجب طلب معرفته ليجتنب ، وقال تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } .

                                                                                                                                                                                          فصح أن ما فصل لنا بيانه على لسان رسوله عليه السلام من الربا ، أو من الحرام ، فهو ربا وحرام ، وما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال ، لأنه لو جاز أن يكون في الشريعة شيء حرمه الله تعالى ثم لم يفصله لنا ، ولا بينه رسوله عليه السلام لكان تعالى كاذبا في قوله تعالى { : وقد فصل لكم ما حرم عليكم } وهذا كفر صريح ممن قال به ، ولكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصيا لربه تعالى إذ أمره بالبيان فلم يبين فهذا كفر متيقن ممن أجازه .

                                                                                                                                                                                          وممن قال : لا ربا إلا في الأصناف المذكورة : طاوس ، وقتادة ، وعثمان البتي ، وأبو سليمان ، وجميع أصحابنا .

                                                                                                                                                                                          واختلف الناس في هذا ، فقالت طائفة : إن هذه الأصناف الستة إنما ذكرت لتكون دلالة على ما فيه الربا مما سواها مما يشبهها في العلة التي حيثما وجدت كان ما وجدت فيه ربا .

                                                                                                                                                                                          ثم اختلفوا في تلك العلة ، وكل طائفة منها تبطل علة الآخرين أو تنفيها فقالت طائفة : هي الطعم ، واللون - : روينا من طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد قال : سئل ابن شهاب عن الحمص بالعدس اثنان بواحد يدا بيد ؟ فقال ابن شهاب : كل شيء خالف صاحبه باللون ، والطعم ، فلا أراه إلا شبه الطعام - وقال ابن وهب : وبلغني عن ابن مسعود ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وربيعة ، مثله .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فنظرنا في هذا فوجدناه قولا بلا دليل فسقط - وقد بين ابن شهاب أنه رأي منه والرأي إذا لم يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو خطأ بلا شك .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : هي وجوب الزكاة ، كما روينا من طريق ابن وهب عن عبد الجبار بن عمر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن : أنه كان لا يرى بأسا بالتفاحتين بالتفاحة ، والخوخ مثل ذلك .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 404 ] وكل ما لم تجز فيه الزكاة ، فنظرنا في هذا فوجدناه أيضا قولا بلا دليل ، ووجدنا الملح لا زكاة فيه ، والربا يقع فيه بالنص ، فبطل .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وما يعجز من قلد ربيعة في هذا عما قدر عليه مالك ، والشافعي ، بزيادتهم في علتهم ، كما قال الشافعي : علة الربا الطعم ، والتثمين .

                                                                                                                                                                                          وقول مالك : علة الربا الادخار فيما يؤكل ، والتثمين .

                                                                                                                                                                                          فهل هذا إلا كقول من قلد ربيعة : علة الربا بما فيه الزكاة والملحية ؟ وهل هي إلا دعوى كدعوى كلاهما بلا برهان ؟

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة بغير ذلك - : كما روينا من طريق عبد الرزاق أنا عبد الله بن كثير عن شعبة سألت الحكم بن عتيبة عمن اشترى خمسة عشر جريبا من أرض بعشرة أجربة ؟ فقال : لا بأس به - وكرهه حماد بن أبي سليمان ولا ندري ما علته في ذلك ، ولعلها الجنس ، فلم يجز التفاضل في جنس واحد ، كائنا ما كان والله أعلم ، إلا أنها دعوى ليست غيرها أصح منها ، ولا هي بأضعف من غيرها .

                                                                                                                                                                                          وقد روي مثله عن سعيد بن جبير ، وهو أنه جعل علة الربا تقارب المنفعة في الجنس الواحد ، أو الجنسين .

                                                                                                                                                                                          وقد روينا من طريق الحجاج بن المنهال أنا الربيع بن صبيح عن محمد بن سيرين قال : إذا اختلف النوعان فلا بأس إذا كان يدا بيد ، واحدا باثنين .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذه أعم العلل فيلزم من قال منهم : بالعلة العامة أن يقول بها - وقال المالكيون : علة الربا هي الاقتيات ، والادخار في الجنس ، فما كان يدخر مما يكون قوتا في الأكل ، فالربا فيه نقدا ونسيئة ، وما كان لا يقتات ولا يدخر ، فلا يدخل الربا فيه يدا بيد - وإن كان جنسا واحدا - لكن يدخل فيه الربا في النسيئة إذا كان جنسا واحدا ، وهذه هي علة المتقدمين منهم ، ثم رغب عنها المتأخرون منهم ; لأنهم وجدوها تفسد عليهم ، لأن الثوم ، أو البصل ، والكراث ، والكرويا ، والكزبرة ، والخل ، والفلفل - نعم ، والملح الذي جاء فيه النص ليس منه شيء يكون قوتا أصلا ، بل بعضه يقتل إذا أكل منه نصف وزن ما يؤكل مما يتقوت به ، كالملح ، والفلفل ، فلو أن إنسانا أكل رطل فلفل في جلسة لقتله بلا شك ، وكذلك الملح ، والخل الحاذق ، وكذلك [ ص: 405 ] الثوم - ووجدوها تفسد عليهم أيضا في اللبن ، والبيض ، فإنهما لا يمكن ادخارهما ، والربا عندهم يدخل فيهما ، ووجدوها أيضا تفسد عليهم في الكمون ، والشونيز ، والحلبة الرطبة ، والكزبرة ، والكرويا ، ليس شيء من ذلك قوتا ، والربا عندهم في كل ذلك ، فلما رأوا هذه العلة كذلك ، وهي علة من قلدوه دينهم اطرحوها ، ولم تكن عليهم مؤنة في استخراج غيرها بآرائهم لتستقيم لهم آراؤهم في الفتيا عليها ؟ فقال بعضهم : إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى القوت ، وهو البر ، وأدون القوت ، وهو الملح ، ليدل على أن حكم ما بينهما كحكمهما .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم مجرد بلا كلفة ، وما ندري كيف ينشرح صدر مسلم لإطلاق مثل هذا على الله تعالى ، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ؟

                                                                                                                                                                                          ولو أطلق هذا المطلق مثله على سائس حماره بغير أن يخبره به عن نفسه لكان كاذبا مجرحا بذلك ، فكيف على الله تعالى وعلى نبيه عليه السلام ؟ اللهم لك الحمد على عظيم نعمتك في تنفيرنا عن مثل هذا وشبهه .

                                                                                                                                                                                          ثم لم يرض سائرهم هذه العلة وقالوا : ليس الملح دون الأقوات ، بل الحاجة إليه أمس منها إلى الثوم ، والحلبة الرطبة ، والشونيز ، فارتادوا غيرها ، كمن يتحكم في بيدر تمره ، ويأخذ ما استحسن ويترك ما لم يستحسن .

                                                                                                                                                                                          فقالوا : العلة في الربا مختلفة ، فمنها الاقتيات ، والادخار ، كما قال أسلافهم قياسا على البر والشعير - ومنها الحلاوة ، والادخار ، كالزبيب والتين ، والعسل قياسا على التمر - ومنها التأدم ، والادخار قياسا على الملح ، وهذا تعليل استصنعه لهم محمد بن عبد الله بن صالح الأبهري ، وهذا تعليل يفسد عليهم ; لأن السلجم والباذنجان ، والقرع ، والكرنب ، والرجلة ، والقطف ، والسلق ، والجزر ، والقنبيط ، واليربز إدام الناس في الأغلب .

                                                                                                                                                                                          وكثير من ذلك يدخر ولا يقع الربا فيه عندهم : كاللفت ، والجزر ، والباذنجان ، بل كل ذلك يجوز منه اثنان بواحد يدا بيد من جنس واحد ، فاطرح بعضهم هذه العلة ولم تعجبه لما ذكرنا فزاد فيها بأن قال : ومنها الحلاوة ، والادخار مما يتفكه به ويصلح للقوت - فلم يرض غيره منهم هذه العلة وقال : ليست بشيء ; لأن الفلفل ، والثوم ، [ ص: 406 ] والكرويا ، والكمون ، ليس شيء منها يتفكه به ولا يصلح للقوت ، ولا يتأدم به ، ولا هو حلو .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فإن العناب والإجاص المزبب ، والكمثرى المزبب والمخيطاء كلها يتفكه به ويصلح للقوت ، ولا يدخل الربا في شيء منه عندهم - فاحتاج إلى استعمال علة أخرى ، فقال : العلة هي الاقتيات ، والادخار ، وما يصلح به الطعام المتقوت به ليصح له فيما ظن إدخال : الكمون ، والكرويا ، والبصل ، والثوم ، والكراث ، والفلفل ، والخل ، فيما يقع فيه الربا قياسا على الملح ; لأن الطعام يصلح بكل ذلك .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذه أفسد العلل التي ذكروا ، وإن كانت كلها فاسدة ، واضحة البرهان ، برهان ذلك - : أن إصلاح الطعام بما ذكرنا من التوابل ، والخضراوات ، والخل ، لا يشبه إصلاحه بالملح أصلا ; لأن الطعام المطبوخ إن لم يؤكل أصلا ، ولا يقدر عليه أحد ، إلا من قارب الموت من الجوع أو خافه ، وإما إصلاحه بالتابل ، والخضراوات المذكورة فما بالطعام إلى شيء منه حاجة إلا عن بذخ وأشر .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فإن كل ذي حس سليم في العالم يدري بضرورة الحس أن إصلاح الطعام بالكرويا ، والكمون ، والفلفل ، والكزبر ، والشونيز ، كإصلاحه بالدارصيني ، والخولنجان ، والقرفة ، والسنبل ، والزعفران ، ولا فرق ، بل إصلاحه بهذه أطيب له وأعبق ، وأصلح منه بتلك ، والربا عندهم لا يدخل في هذه ، وبلا شك أن الضرورة في إصلاح الطعام بالماء أشد وأمس ، والربا عندهم لا يدخل في الماء بالماء - وما نعلم لهم علة غير ما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                          وهذه العلل كلها ذكر بعضها عبد الله بن أبي زيد القيرواني ، وذكر سائرها ابن القصار ، وعبد الوهاب بن علي بن نصر في كتبهم مفرقة ومجموعة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وكلها فاسد بما ذكرنا من التخاذل ، وبأنها موضوعة مستعملة - ويقال لهم : ما الفرق بين علتكم هذه وبين من قال : بل علة الربا ما كان ذا سنبل قياسا على البر ، والشعير ، وما كان ذا نوى قياسا على التمر ، وما كان طعمه ملحيا قياسا على الملح ، وما كان معدنيا قياسا على الذهب ، والفضة .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 407 ] فإن قالوا : لم يقل بهذا أحد ؟ قلنا : ولا قال بعللكم أحد قبلكم .

                                                                                                                                                                                          فإن قال قائل : هذه أيضا يكون مثلكم ، وأيضا : فمن أين خرج لكم أن تعللوا البر ، والشعير ، والتمر ، والملح ؟ ولا تعللون الذهب ، والفضة ، وكلها جاء النص به سواء ، فمن أين هذا التحكم يا هؤلاء ؟ وهل هذا إلا شبه اللعب ؟ وليس هذا مكان دعوى إجماع ، فقد علل الحنفيون الذهب والفضة بالوزن ، وعللوا الأصناف الأربعة بالكيل .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وغيرهم لم يعلل شيئا من ذلك ، ولا بد من تعليل الجميع والقياس عليه ، أو ترك تعليل الجميع وترك القياس عليه ، والاقتصار على ما جاء به النص فقط ، وهذا ما لا مخلص لهم منه أصلا .

                                                                                                                                                                                          وقد أجهدنا أنفسنا في أن نجد لنظارهم شيئا يقوون به شيئا من هذه العلل يمكن إيراده - وإن كال شغبا - فما قدرنا عليه في شيء من كتبهم .

                                                                                                                                                                                          وجهدنا أن نجد لهم شيئا نورده - وإن لم يوردوه - كما نفعل بهم وبكل من خالفنا ، فإنهم وإن كانوا لم ينتبهوا له فلا يبعد أن ينتبه له منتبه فيشغب به ، فما قدرنا على ذلك .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فإننا لم نجد لمالك في تعليله المذكور الذي عليه بنى أقواله في الربا سلفا ألبتة ، لا من صاحب ; ولا من تابع ، ولا من أحد قبله ، ولهم تخاليط عظيمة في أقوالهم في الربا ، فقد تقصيناها في غير هذا المكان ، ولم نذكرها ههنا ; لأنه كتاب مختصر ، لكن يكفي من إيرادها : أن ينظر كل ذي فهم كيف تكون أقوال بنيت على هذه القواعد وفروع أنشئت من هذه الأصول ؟ وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية