الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1493 مسألة :

                                                                                                                                                                                          واستدركنا مناقضات لهم يعارضون بها أن شنعوا علينا ببيع القمح بدقيقه ودقيق غيره متفاضلا ، وتسليم أحدهما في الآخر ، وكذلك دقيق القمح بدقيق القمح ، وبالخبز والزيت بالزيتون وبالزيت ، واللبن باللبن ، وبالجبن والسمن وكل شيء ، ما عدا ما ورد به النص من السنة .

                                                                                                                                                                                          ولا شنعة في شيء منه ; لأننا لم نتعد حدود الله تعالى ، ولا حرمنا ما لم يحرمه الله تعالى ولا رسوله عليه السلام ، وإنما الشنيع فيما نذكره إن شاء الله تعالى : [ ص: 456 ] قال مالك : يجوز بيع الدقيق من القمح بالقمح كيلا بكيل ، مثلا بمثل يدا بيد ، قال : ولا يجوز دقيق القمح بدقيق القمح كيلا بكيل ، لكن وزنا بوزن ، مثلا بمثل .

                                                                                                                                                                                          قال علي فإن كان دقيق القمح نوعا واحدا مع القمح ؟ فما يحل أن يبيع دقيق قمح بدقيق قمح إلا كيلا بكيل كما يبيع الدقيق بالقمح ; لأنهما قمح معا وإن كان دقيق القمح صنفا غير القمح ، فواجب أن يجيزه بالقمح متفاضلا ، وأجاز القمح بسويق القمح متفاضلا ؟ فأي فرق بين دقيق قمح وبين سويق قمح بقمح ؟ وأعجب من هذا احتجاجهم في ذلك : بأن السويق دخلته صنعة ؟ فقلنا : فكان ماذا ؟ ومن أين وقع لكم الفرق بأنه دخلته صنعة ؟ نعم ، والدقيق أيضا دخلته ، صنعة ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          وقالوا أيضا : إنما يراعى تقارب المنافع ؟ فقلنا : وهذا أيضا من أين وقع لكم ؟ ومن أين وجب لكم أن تراعوا تقارب المنافع ؟ وهل هي إلا دعوى بلا برهان ؟ وقول لم تسبقوا إليه ، وتعليل فاسد .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فإن المنافع في جميع المأكولات واحدة لسنا نقول : متقاربة ، بل شيء واحد ، وهو طرد الجوع ، أو التأدم ، أو التفكه ، أو التداوي ، ولا مزيد .

                                                                                                                                                                                          ومنعوا من الحنطة المبلولة باليابسة ، وأجازوا الحنطة المقلية باليابسة وكلتاهما مختلفة مع الأخرى .

                                                                                                                                                                                          ومنعوا من الدقيق بالعجين وقد دخلت العجين صنعة .

                                                                                                                                                                                          وأباحوا القمح بالخبز من القمح متفاضلا .

                                                                                                                                                                                          ومنعوا من اللبن بالسمن جملة ؟ نعم ، ومنعوا من اللبن بالجبن وهل الجبن من اللبن إلا كالخبز من القمح ؟ ومنعوا من بيع لبن شاة بشاة لبون ، إلا أنه لا لبن الآن في ضرعها ; لأنه قد استنفذ بالحلب .

                                                                                                                                                                                          وأجازوا بيع النخل بالتمر إذا كانت لا تمر فيها .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا بأن اللبن يخرج من ضرع الشاة ، وأن السمن يعمل من اللبن ؟ فقلنا : والتمر يخرج من النخل ، والخبز يعمل من القمح . [ ص: 457 ]

                                                                                                                                                                                          ومنعوا من بيع العنب بالعصير ، وأجازوه بالخل وهذه عجائب لا نظير لها ، لو تقصيناها لا تسع الأمر في ذلك ، وفيما ذكرناه كفاية ، وهو كله كما ذكرنا لا يعرف عن أحد قبل مالك ، وكذلك لا يحفظ عن أحد قبل مالك المنع من بيع الزيت بالزيتون يدا بيد متفاضلا ومتماثلا .

                                                                                                                                                                                          وأما الحنفيون : فإنهم أباحوا الربا المنصوص عليه جهارا فأحلوا بيع تمرة بتمرتين ، وحرموا بيع رطل كتان أسود أخرش لا يصلح إلا لقلفة المراكب برطل كتان أبيض مصري أملس كالحرير

                                                                                                                                                                                          وكذلك حرموا بيع رطل قطن طيب غزلي برطل قطن خشن لا يصلح إلا للحشو ، وقالوا : القطن كله صنف واحد ، والكتان كله صنف واحد .

                                                                                                                                                                                          قالوا : وأما الثياب المعمولة من القطن فأصناف مختلفة يجوز في بعضها ببعض التفاضل والنسيئة فأجازوا بيع ثوب قطن مروي خراساني بثوبي قطن مروي بغدادي نقدا ونسيئة قالوا : وأما غزل القطن في كل ذلك فصنف واحد لا يجوز فيه التفاضل ولا النسيئة .

                                                                                                                                                                                          قالوا : شحم بطن الكبش صنف ، وشحم ظهره وشحم سائر جسده صنف آخر ، فأجازوا بيع رطلين من شحم بطنه برطل من شحم ظهره نقدا .

                                                                                                                                                                                          قالوا : وألية الشاة صنف ، وسائر لحمها صنف آخر ، فجائز بيع رطل من أليتها برطلين من سائر لحمها .

                                                                                                                                                                                          قالوا : ولا يجوز بيع رطل من لحم كبش إلا برطل من لحمه ولا مزيد ، وزنا بوزن نقدا ، ولا بد وأجازوه برطلين من لحم الثور نقدا ولا بد .

                                                                                                                                                                                          وأما لحم الإوز ، ولحم الدجاج ، فيجوز من كل واحد منهما رطل برطلين من نوعه فأجازوا رطل لحم دجاج برطلين من لحم دجاج نقدا أو برطلين من لحم الإوز نقدا ونسيئة .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : النسيئة في كل ما يقع فيه الربا من التمر والبر والشعير ، وغير ذلك ، إنما هي ما اشترط فيه الأجل في حين العقد ، وأما ما تأخر قبضه إلى أن تفرقا ولم يكن اشترط [ ص: 458 ] فيه التأخير ، فلا يضر البيع في ذلك شيئا ، إلا في الذهب ، والفضة فقط ، فإن تأخر القبض فيهما ربا اشترط أو لم يشترط .

                                                                                                                                                                                          ومن عجائب الدنيا إجازته الرطب بالتمر ، ومنعه من الدقيق أو السويق بالقمح جملة ، فلم يجزه أصلا ، فلو عكس قوله لأصاب .

                                                                                                                                                                                          وهذه كلها وساوس ، وسخافات ، ومناقضات ، لا دليل عليها ، وأقوال لا تحفظ من أحد قبله ونسأل الله العافية .

                                                                                                                                                                                          وأما الشافعيون : فإنهم منعوا من رطل سقمونيا برطلين من سقمونيا ; لأنها عندهم من المأكولات ، وأباحوا وزن درهم زعفران بوزن درهمين منه نقدا ونسيئة ; لأنه لا يؤكل عندهم .

                                                                                                                                                                                          ولم يجيزوا بيع عسل مشتار بشمعه كما هو بعسل مشتار بشمعه كما هو أصلا ، إلا حتى يصفى كلاهما وأجازوا بيع الجوز بقشره بالجوز بقشره .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا في ذلك بأن إخراج العسل من شمعه صلاح له ، وإخراج الجوز واللوز من قشره ، ونزع النوى من التمر فساد له .

                                                                                                                                                                                          فقلنا : كلا ، ما الصلاح فيما ذكرتم إلا كالفساد فيما وصفتم ، وما في ذلك صلاح ، ولا في هذا فساد ، ولو كان فسادا لما حل أصلا ; لأن الله تعالى يقول : { والله لا يحب الفساد }

                                                                                                                                                                                          وهذه أيضا مناقضات ظاهرة ، وأقوال لا نعلم أحدا سبقهم إليها وبالله تعالى التوفيق ولا نعلم أحدا قبل أبي حنيفة منع من بيع الزيت بالزيتون يدا بيد ، سواء كان أكثر ما في الزيتون من الزيت ، أو مثله أو أقل .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : والحقيقة التي تشهد لها اللغة ، والشريعة ، والحس ، فهو أن الدقيق ليس قمحا ولا شعيرا ، لا في اسمه ، ولا في صفته ، ولا في طبيعته .

                                                                                                                                                                                          فهذه الدواب تطعم الدقيق والخبز فلا يضرها بل ينفعها ، وتطعم القمح فيهلكها ، والدبس ليس تمرا ، لا في لغة ، ولا في شريعة ، ولا في مشاهدة .

                                                                                                                                                                                          ولا في اسمه ، ولا في صفاته . [ ص: 459 ]

                                                                                                                                                                                          والماء ليس ملحا ; لأنه يجوز الوضوء بالماء ، ولا يجوز بالملح .

                                                                                                                                                                                          وليس توليد الله تعالى شيئا من شيء بموجب أن المتولد هو الذي عنه تولد ، فنحن خلقنا من تراب ، ونطفة ، وماء ، ولسنا نطفة ، ولا ترابا ، ولا ماء .

                                                                                                                                                                                          والخمر متولدة من العصير وهي حرام والعصير حلال .

                                                                                                                                                                                          واللبن متولد عن الدم واللبن حلال والدم حرام .

                                                                                                                                                                                          والعذرة تستحيل ترابا حلالا طيبا .

                                                                                                                                                                                          والدجاجة تأكل الميتة والدم فيصيران فيها لحما حلالا طيبا .

                                                                                                                                                                                          والخل متولد من الخمر وهو حلال وهي حرام .

                                                                                                                                                                                          وأما حلي الذهب والفضة فهما ذهب وفضة باسميهما وصفاتهما وطبيعتهما في اللغة وفي الشريعة [ واحد ] { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه }

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية