الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1864 - مسألة : وأما من تزوج امرأة ولها ابنة أو ملكها ولها ابنة ، فإن كانت الابنة في حجره ودخل بالأم مع ذلك وطئ أو لم يطأ ، لكن خلا بها بالتلذذ : لم تحل له ابنتها أبدا ، فإن دخل بالأم ولم تكن الابنة في حجره ، أو كانت الابنة في حجره ولم يدخل بالأم ، فزواج الابنة له حلال .

                                                                                                                                                                                          وأما من تزوج امرأة لها أم أو ملك أمة تحل له ولها أم فالأم حرام عليه بذلك أبد الأبد - وطئ في كل ذلك الابنة أو لم يطأها .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : قول الله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم [ ص: 141 ] اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } فلم يحرم الله عز وجل الربيبة بنت الزوجة أو الأمة إلا بالدخول بها ، وأن تكون هي في حجره ، فلا تحرم إلا بالأمرين معا ، لقوله تعالى بعد أن ذكر ما حرم من النساء : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } .

                                                                                                                                                                                          { وما كان ربك نسيا } .

                                                                                                                                                                                          وكونها في حجره ينقسم قسمين - : أحدهما : سكناها معه في منزله ، وكونه كافلا لها .

                                                                                                                                                                                          والثاني :

                                                                                                                                                                                          نظره إلى أمورها نحو الولاية لا بمعنى الوكالة ، فكل واحد من هذين الوجهين يقع به عليها كونها في حجره .

                                                                                                                                                                                          وأما أمها فيحرمها عليه بالعقد جملة : قول الله تعالى : { وأمهات نسائكم } فأجملها عز وجل فلا يجوز تخصيصها .

                                                                                                                                                                                          وفي كل ذلك اختلاف قديم وحديث - : ذهبت طائفة إلى أن الأم لا تحرم إلا بالدخول بالابنة - : كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن خلاس عن علي بن أبي طالب أنه سئل في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها أله أن يتزوج أمها ؟ فقال علي : هما بمنزلة واحدة يجريان مجرى واحدا إن طلق الابنة قبل الدخول بها تزوج أمها ، وإن تزوج أمها طلقها قبل أن يدخل بها : تزوج ابنتها ، وهذا صحيح عن علي رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                          نا أحمد بن عمر بن أنس العذري نا أبو ذر الهروي نا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي نا إبراهيم بن خريم نا عبد بن حميد نا عبد الرزاق نا معمر عن سماك بن الفضل - هو قاضي صنعاء - قال : قال ابن الزبير : الربيبة ، والأم سواء لا بأس بهما إذا لم يكن دخل بالمرأة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني أبو بكر بن حفص - هو ابن عمر بن سعد بن أبي وقاص - عن مسلم بن عويمر من بني بكر بن عبد مناة من كنانة أنه أخبره أنه أنكحه أبوه امرأة بالطائف ، قال فلم أمسها حتى توفي عمي عن أمها - وأمها ذات مال كثير - فقال لي أبي : هل لك في أمها ؟ قال : فسألت ابن عباس ، وأخبرته الخبر ؟ فقال : انكح أمها - وذكر باقي الخبر .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 142 ] ومن طريق إسماعيل بن إسحاق نا ابن أبي أويس حدثني عبد الرحمن بن أبي الموالي عن عبد الحكم بن عبد الله بن أبي فروة أن رجلا من بني ليث يقال له : ابن الأجدع تزوج جارية شابة فهلكت قبل أن يدخل بها ، فخطب أمها ؟ فقالت له : نعم ، إن كنت أحل لك ، فجاء ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم من أرخص له - وذكر باقي الخبر .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي فروة عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود : أن رجلا من بني شمخ بن فزارة تزوج امرأة ثم رأى أمها فأعجبته فاستفتى ابن مسعود فأفتاه أن يفارقها ثم يتزوج أمها فتزوجها وولدت له أولادا - وذكر باقي الخبر على ما نورده بعد هذا - إن شاء الله تعالى - وبه يقول مجاهد وغيره .

                                                                                                                                                                                          وطائفة قالت بإباحة نكاح أم الزوجة التي لم يدخل بها إذا طلق الابنة ولم يبحه إن ماتت - : كما روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا سليمان بن حرب نا حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها فأراد أن يتزوج أمها ؟ قال : إن طلقها قبل أن يدخل بها تزوج أمها ، وإن ماتت لم يتزوج أمها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب : أن زيد بن ثابت قال : إن طلق الابنة قبل أن يدخل بها تزوج أمها ، وإن ماتت لم يتزوج أمها .

                                                                                                                                                                                          وطائفة فرقت بين الأم والابنة - : روينا ذلك عن عمر بن الخطاب ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وطائفة من الصحابة .

                                                                                                                                                                                          وطائفة توقفت في كل ذلك - : كما روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا ابن أبي أويس نا عبد الرحمن بن أبي الموالي عن عبد الحكم بن عبد الله بن أبي فروة : أن رجلا من بني ليث يقال له : ابن الأجدع تزوج جارية فهلكت ولم يدخل بها ، فخطب أمها فقالت : نعم ، إن كنت أحل لك ؟ فسأل ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم من أرخص له ومنهم من نهاه وقال : إن الله عز وجل قد عزم في الأم وأرخص في [ ص: 143 ] الربيبة ، فلما اختلفوا عليه كتب إلى معاوية فأخبره إرخاص من أرخص له ونهي من نهاه ؟ فكتب إليه معاوية : قد جاءني كتابك وفهمت الذي فيه ، وإني لا أحل لك ما حرم الله عليك ، ولا أحرم عليك ما أحل الله لك ، ولعمري إن النساء كثير - ولم يزده على ذلك ؟ فجاء بكتاب معاوية فقرأه الذي سألهم ؟ فكلهم قال : صدق معاوية ، قال : فانصرف عن المرأة ولم يتزوجها .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : قول الله عز وجل : { وربائبكم } معطوف على ما حرم ، هذا ما لا شك فيه - وقوله عز وجل : { اللاتي في حجوركم } نعت للربائب لا يمكن غير ذلك ألبتة .

                                                                                                                                                                                          وقوله تعالى : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } من صلة الربائب لا يجوز غير ذلك ألبتة ، إذ لو كان راجعا إلى قوله تعالى : { وأمهات نسائكم } لكان موضعه أمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - وهذا محال في الكلام .

                                                                                                                                                                                          فصح أن الاستثناء في " الربائب " خاصة ، وامتنع أن يكون راجعا إلى " أمهات النساء " وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          واختلفوا أيضا في " الربيبة " فقالت طائفة : إذا دخل بأمها فقد حرمت البنت عليه سواء كانت في حجره أو لم تكن - : روينا عن جابر بن عبد الله إن ماتت قبل أن يمسها نكح ابنتها إن شاء . ومن طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن أن عمران بن الحصين سئل عن رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ؟ فقال عمران : لا تحل له أمها - دخل بها أو لم يدخل بها - فإن طلق الأم قبل أن يدخل بها تزوج ابنتها - وبه يقول أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة بمثل قولنا - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النصري قال : كان عندي امرأة قد ولدت لي فتوفيت ، فوجدت عليها ، فلقيت علي بن أبي طالب ؟ فقال لي : مالك ؟ قلت : توفيت المرأة ، قال : ألها ابنة ؟ قلت : نعم ، قال : كانت في حجرك ؟ قلت : لا ، هي في الطائف ، قال : فانكحها ؟ قلت : وأين قوله تعالى : { وربائبكم [ ص: 144 ] اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } قال : إنها لم تكن في حجرك وإنما ذلك إذا كانت في حجرك .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي عبيد نا حجاج - هو ابن محمد - عن ابن جريج ، قال : أخبرني إبراهيم بن ميسرة : أن رجلا من بني سوأة يقال له : عبيد الله بن معبد - أثنى عليه خيرا - أخبره أن أباه أوجده نكح امرأة ذات ولد من غيره ، فاصطحبا ما شاء الله عز وجل ، ثم نكح امرأة شابة ، فقال له أحد بني الأولى : قد نكحت على أمنا وكبرت فاستغنيت عنها بامرأة شابة فطلقها ؟ قال : لا والله إلا أن تنكحني ابنتك ؟ قال : فطلقها وأنكحه ابنته ، ولم تكن في حجره ولا أبوها ابن العجوز المطلقة ، قال : فجئت سفيان بن عبد الله فقلت له : استفت لي عمر بن الخطاب ؟ قال : لتجيء معي ؟ فأدخلني على عمر ، فقصصت عليه الخبر ؟ فقال عمر : لا بأس بذلك واذهب فسل فلانا ثم تعال فأخبرني ؟ قال : ولا أراه إلا عليا - قال : فسألته ؟ فقال : لا بأس بذلك .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لا يجوز تخصيص شرط الله عز وجل بغير نص .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وقد قال قوم : قوله تعالى : { اللاتي دخلتم بهن } إنما عنى الجماع - صح ذلك عن ابن عباس ، وطاوس ، وعمرو بن دينار ، وعبد الكريم الجزري .

                                                                                                                                                                                          وروي عن ابن مسعود أن القبلة للأم التي تتزوج تحرم ابنتها .

                                                                                                                                                                                          وروي عن عطاء - وصح عنه - أن الدخول : هو أن يكشف ، ويفتش ، ويجلس بين رجليها ، في بيته أو في بيت أهلها ؟ قال : فلو غمز ولم يكشف لم تحرم ابنتها عليه بذلك .

                                                                                                                                                                                          وروي عن عطاء أيضا : أنه الدخول فقط وإن لم يفعل شيئا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وشغب المخالفون الذين لا يراعون كون الربيبة في حجر زوج أمها مع دخول بها بآثار فاسدة .

                                                                                                                                                                                          منها : خبر منقطع من طريق ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أيما رجل نكح امرأة فدخل بها فلا يحل له نكاح ابنتها فإن لم يدخل بها فلينكحها } . [ ص: 145 ] وهذا هالك منقطع ، ويحيى بن أيوب ، والمثنى : ضعيفان .

                                                                                                                                                                                          وبخبر عن وهب بن منبه : أن في التوراة مكتوبا " من كشف عن فرج امرأة وابنتها فهو ملعون " وهذا طريف جدا .

                                                                                                                                                                                          وبخبر من طريق ابن جريج : أخبرت عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن أم الحكم قال { : قال رجل : يا رسول الله زنيت بامرأة في الجاهلية أفأنكح ابنتها ؟ قال : لا أرى ذلك ، ولا يصلح لك أن تنكح امرأة تطلع من ابنتها على ما تطلع عليه منها } وهذا منقطع في موضعين .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن ابن جريج { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في الذي يتزوج المرأة فيغمزها لا يزيد على ذلك : أن لا يتزوج ابنتها } وهذا أشد انقطاعا .

                                                                                                                                                                                          وبالخبر الثابت من طريق { أم حبيبة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : بلغني أنك تخطب درة بنت أبي سلمة ؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام : والله لو لم تكن ربيبتي ما حلت لي ، إنها لابنة أخي في الرضاعة } .

                                                                                                                                                                                          قالوا : فلم يذكر كونها في حجره ؟ فقلنا : ولا ذكر دخوله بها أيضا ، إنما في هذا الخبر كونها ربيبة له فقط وبعقد النكاح تكون ربيبته ، ولا يختلفون أن ذلك لا يحرمها عليه أن يتزوجها ، فكيف وهذا خبر هكذا رواه سفيان بن عيينة وغيره هشام بن عروة .

                                                                                                                                                                                          ورواه من ليس دون هشام فزاد بيانا - : كما رويناه من طريق أبي داود السجستاني نا عبد الله بن محمد النفيلي نا زهير بن معاوية عن هشام بن عروة عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة أن { أم حبيبة قالت يا رسول الله - في حديث طويل - لقد أخبرت أنك تخطب بنت أبي سلمة قال : بنت أبي سلمة ؟ قلت : نعم ، قال : أما والله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي ، إنها ابنة أخي من الرضاعة } .

                                                                                                                                                                                          وهكذا رواه أبو أسامة ، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، والليث بن سعد . كلهم عن هشام بن عروة ، فأثبتوا فيه ذكره عليه الصلاة والسلام كونها في حجره .

                                                                                                                                                                                          وهكذا رويناه أيضا : من طريق البخاري نا أبو اليمان الحكم بن نافع أخبرنا [ ص: 146 ] شعيب - هو ابن أبي حمزة - عن الزهري أخبرني عن عروة بن الزبير أن زينب بنت أم سلمة أخبرته : أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر ، وفيه { لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري } ولا شك ، ولا خلاف في أنه خبر واحد في موطن واحد عن قصة واحدة أسقط بعض الرواة لفظة أثبتها غيره ممن هو مثله وفوقه في الحفظ ، فلا يحل الاحتجاج بالأنقص على خلاف ما في القرآن .

                                                                                                                                                                                          وموهوا بحماقات - : مثل أن قالوا : أراد الله عز وجل بقوله : { في حجوركم } على الأغلب .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا كذب على الله تعالى ، وإخبار عنه عز وجل بالباطل ومثل قولهم هذا كقوله تعالى : { إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } وليس ذلك بمحرم عليه اللاتي لم يؤتهن أجورهن ؟ .

                                                                                                                                                                                          فقلنا : لو لم يأت نص آخر بإحلال الموهوبة والتي لم يفرض لها فريضة لما حلت إلا اللاتي يؤتيهن أجورهن ، وأنتم لا نص في أيديكم يحرم التي لم تكن في حجره من الربائب .

                                                                                                                                                                                          ومثل قولهم : كل تحريم له سببان ، فإن أحدهما إذا انفرد كان له تأثير ؟

                                                                                                                                                                                          قال علي : وهذا كذب مجرد ، بل لا تأثير له دون اجتماعه في السبب المنصوص عليه معه .

                                                                                                                                                                                          وادعوا أن إبراهيم بن عبيد الذي روى عن علي إباحة ذلك مجهول ؟ قال علي : بل كذبوا ، هو مشهور ثقة ، روى مسلم وغيره عنه في الصحيح .

                                                                                                                                                                                          فوضح فساد قولهم بيقين - والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية