الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وأما ما يجوز فيه الفداء - : فقالت طائفة : لا يجوز الفداء إلا بما أصدقها لا بأكثر - : فكما روينا من طريق عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان التيمي عن ليث بن أبي سليم عن الحكم بن عتيبة أن علي بن أبي طالب قال : لا يأخذ منها فوق ما أعطاها .

                                                                                                                                                                                          وهذا لا يصح عن علي ، لأنه منقطع ، وفيه ليث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر ، وابن جريج ، قالا : نا ابن طاوس عن أبيه أنه كان يقول : لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، قال ابن جريج : وقال لي عطاء : إن أخذ زيادة على صداقها ، فالزيادة مردودة إليها - وقال معمر عن الزهري : لا يحل له أن يأخذ من امرأته أكثر مما أعطاها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا أبو بكر - هو المقدمي - نا عمر بن أيوب عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال : من أخذ منها أكثر مما أعطاها فلم يسرح بإحسان .

                                                                                                                                                                                          وقال الأوزاعي كانت القضاة لا تجيز أن يأخذ منها إلا ما ساق إليها .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : بكراهة ذلك - كما روينا من طريق وكيع عن أبي حنيفة عن عمار بن عمران الهمداني عن أبيه أن علي بن أبي طالب كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن شعبة عن الحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان أنهما كرها أن يأخذ من فداء امرأته منها أكثر مما ساق إليها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن سفيان عن أبي حصين عن عامر الشعبي أنه كره أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 520 ] وقالت طائفة : يكره أن يأخذ منها كل ما أعطاها .

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن المسيب قال : لا أحب أن يأخذ منها كل ما أعطاها حتى يدع لها ما يغنيها .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : يأخذ منها كل ما معها فما دون ذلك إذا تراضيا به .

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق حماد بن سلمة نا أيوب السختياني عن كثير بن أبي كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة أن امرأة نشزت على زوجها فرفعها إلى عمر بن الخطاب ، فذكر القصة ، وأن عمر قال لزوجها : اخلعها ولو من قرطها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب أن الربيع بنت معوذ ابن عفراء حدثته أنها اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه فخاصمه في ذلك إلى عثمان بن عفان فأجازه ، وأمره أن يأخذ عقاص رأسها فما دونه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع أن ابن عمر جاءته مولاة لامرأته اختلعت من كل شيء لها وكل ثوب لها حتى من نقبتها - وصح عن عكرمة ، وإبراهيم ، ومجاهد .

                                                                                                                                                                                          وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهم .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة : لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، فإن فعل فليتصدق الزيادة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : احتجت الطائفة الأولى - : بما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قال لي عطاء : { أتت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إني أبغض زوجي وأحب فراقه ؟ قال : فتردين إليه حديقته التي أصدقك ؟ قالت : نعم ، وزيادة من مالي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما زيادة من مالك فلا ، ولكن الحديقة ، قالت : نعم فقضى عليه الصلاة والسلام بذلك على الزوج } .

                                                                                                                                                                                          وروي أيضا عن ابن جريج عن أبي الزبير .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا مرسل ، ولقد كان يلزم المالكيين القائلين بأن المرسل كالمسند أن يقولوا به ، ولا حجة عندنا في مرسل - فسقط القول المذكور .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في القول الثاني - فوجدنا : ما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا [ ص: 521 ] أحمد بن عبد الله بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا مؤمل بن إسماعيل عن ابن جريج عن عطاء { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها } وهذا مرسل ، فسقط الاحتجاج به .

                                                                                                                                                                                          ولم نجد لقول ابن المسيب متعلقا أصلا .

                                                                                                                                                                                          وأما قول أبي حنيفة ففي غاية الفساد ، لأنه لا يخلو أخذه الزيادة على ما أعطاها في صداقها من أن يكون حراما أو مباحا فإن كان حراما فواجب رده إليها كما قال عطاء ، وإن كان مباحا فلم أمروه بالصدقة بالزيادة دون سائر ماله - وهذا ظاهر الخطأ .

                                                                                                                                                                                          والعجب أنهم يردون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت بدعواهم أنه زائد على ما في القرآن ، كالمسح على العمامة ، والاستنشاق وغير ذلك ، ثم يأخذون بكلام ساقط متناقض ، مخالف لما في القرآن ، ليس معهم فيه إلا رأي أبي حنيفة فقط - فوجب الأخذ بعموم قوله تعالى : { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } .

                                                                                                                                                                                          ومن العجب تمويه بعضهم بقوله تعالى : { وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } وقوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله }

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : نعم ، لا يحل له أن يأخذ مما آتاها شيئا ، إلا أن تطيب نفسها به - ثم حكم آخر { أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } عموم لا يحل تخصيصه بالدعاوى الكاذبة .

                                                                                                                                                                                          وقال بعضهم : من أخذ أكثر مما أعطى فلم يسرح بإحسان ؟ فقلنا : لا فرق بين أخذه كل ما أعطاها أو بعض ما أعطاها أو أكثر مما أعطاها بغير حق فحينئذ يكون غير مسرح بإحسان أن يأخذ كل ذلك حيث أباح الله تعالى له أخذه ، فهو مسرح بإحسان ، ولو أباح الله له قتلها لكان محسنا في ذلك .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : أنتم تمنعون من أن يتصدق بجميع ماله أو بما لا يبقى لنفسه غنى بعده ، ومن أن يصدق الرجل بماله كله ، وتبيحون لها أن تعطي مالها كله ؟ [ ص: 522 ] قلنا : إنما نتبع في ذلك أمر الله تعالى فجاء النهي عن الصدقة إلا بما أبقى غنى ، وبأن لا يصدقها إزاره إذ لا غنى به عنه ، وجاء النص بأن { لا جناح عليهما فيما افتدت به } فوقفنا عند كل ذلك ولم نعترض على أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم بالرأي - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية