الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 26 ] مسألة : فيمن أصاب حدا مرتين فصاعدا ؟ قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في ذلك ، كمن زنى مرتين فأكثر قبل أن يحد في ذلك ، أو قذف مرتين فأكثر قبل أن يحد في ذلك ، أو شرب الخمر مرتين فأكثر قبل أن يقام عليه الحد ، أو سرق مرتين فأكثر قبل أن يحد في ذلك ، أو جحد عارية مرتين فأكثر ، قبل أن يقام عليه الحد في ذلك أو حارب مرتين فأكثر قبل أن يقام عليه الحد في ذلك ؟ فقالت طائفة : ليس في كل ذلك إلا حد واحد فقط - وقالت طائفة : عليه لكل مرة حد .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فوجب أن ننظر في ذلك ؟ لنعلم الحق فنتبعه - بعون الله تعالى - فنظرنا في قول من قال : لكل فعلة حد ؟ فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة }

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة }

                                                                                                                                                                                          ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال { من شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إذا شرب فاجلدوه ، ثم إذا شرب فاجلدوه } وذكر باقي الخبر قالوا : فوجب بنص كلام الله تعالى ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على من زنى الجلد المأمور به ، وعلى من سرق قطع يده ، وعلى من قذف الجلد المأمور به وعلى من [ ص: 27 ] شرب الخمر الجلد المأمور به ، فاستقر ذلك فرضا عليه ، فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أنه متى زنى ثانية وجب عليه حد ثان ، وإذا سرق ثانية وجب عليه بالسرقة الثانية قطع ثان ، وإذا قذف ثانية وجب عليه حد ثان ، وإذا شرب ثانية وجب عليه حد ثان ولا بد - وهكذا في كل مرة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : أما قولهم : إن الله تعالى قال { الزانية والزاني } الآية وقوله تعالى { والسارق والسارقة } الآية .

                                                                                                                                                                                          وقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات } الآية .

                                                                                                                                                                                          وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا شرب فاجلدوه ، ثم إذا شرب فاجلدوه ، ثم إذا شرب فاجلدوه } فكل ذلك حق ، ويكفر من أنكر لفظه ومعناه .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم : فاستقر ذلك فرضا عليه ، فهذا وهم أصحابنا ، ولسنا نقول بهذا ، لكن نقول : إنه لا يجب شيء من الحدود المذكورة بنفس الزنى ، ولا بنفس القذف ، ولا بنفس السرقة ، ولا بنفس الشرب ، لكن حتى يستضيف إلى ذلك معنى آخر - وهو ثبات ذلك عند الحاكم بإقامة الحدود ، إما بعلمه ، وإما ببينة عادلة ، وإما بإقراره ، وأما ما لم يثبت عند الحاكم فلا يلزمه حد ، لا جلد ، ولا قطع أصلا .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك : هو أنه لو وجبت الحدود المذكورة بنفس الفعل لكان فرضا على من أصاب شيئا من ذلك أن يقيم الحد على نفسه ليخرج مما لزمه ، أو أن يعجل المجيء إلى الحاكم فيخبره بما عليه ليؤدي ما لزمه فرضا في ذمته ، لا في بشرته ، وهذا أمر لا يقوله أحد من الأمة كلها بلا خلاف .

                                                                                                                                                                                          أما إقامته الحد على نفسه فحرام عليه ذلك بإجماع الأمة كلها ، وأنه لا خلاف في أنه ليس لسارق أن يقطع يد نفسه ، بل إن فعل ذلك كان عند الأمة كلها عاصيا لله تعالى ، فلو كان الحد فرضا واجبا بنفس فعله لما حل له الستر على نفسه ، ولا جاز له ترك الإقرار طرفة عين ، ليؤدي عن نفسه ما لزمه .

                                                                                                                                                                                          وإنما أمر الله تعالى ورسوله - عليه السلام - الأئمة وولاتهم بإقامة الحدود المذكورة على من جناها ، وبيقين الضرورة ندري أن الله تعالى لم يأمرهم من ذلك إلا إذا ثبت ذلك عندهم ، وصح يقينا أن لكل زنا يزنيه ، وكل قذف يقذفه ، وكل شرب [ ص: 28 ] يشربه ، وكل سرقة يسرقها ، وكل حرابة يحارب ، وكل عارية يجحدها قبل علم الإمام بذلك ، فلم يجب عليه فيه شيء ، لكنا نقول : إن الله تعالى أوجب على من زنى مرة ، أو ألف مرة - إذا علم الإمام بذلك - جلد مائة ، وعلى القاذف ، والسارق ، والمحارب ، وشارب الخمر ، والجاحد مرة ، وألف مرة حدا واحدا ، إذا علم الحاكم ذلك كله .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : وأما إن وقع على من فعل شيئا من ذلك تضييع من الإمام ، أو أميره لغير ضرورة ، ثم شرع في إقامة الحد فوقعت ضرورة منعت من إتمامه فواقع فعلا آخر من نوع الأول ، فقولنا ، وقول أصحابنا سواء : يستتم عليه الحد الأول ، ثم يبتدئ في الثاني ولا بد .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك : أن الحد كله قد وجب بعلم الإمام ، أو أميره مع قدرته على إقامة جميع الحد ، ثم أحدث ذنبا آخر ، فلا يجزي عنه حد قد تقدم وجوبه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : ونسأل المخالفين عن قولهم فيمن زنى مرات ، أو شرب مرات ، أو قذف مرات إنسانا واحدا ، أو سرق مرات ، أو حارب مرات - وعلم الإمام كل ذلك - وقدر على إقامة الحدود عليه ، ثم لم يحد حتى واقع ما ذكرنا ، فلم يوجبوا عليه إلا حدا واحدا ، ما الفرق بين هذا وبين قول من قال منهم : إن أفطر عامدا فوطئ أياما من شهر رمضان أن عليه لكل يوم كفارة ؟ ومن حلف أيمانا كثيرة على أشياء مختلفة فعليه لكل يمين كفارة ؟ ومن قال منهم : إن ظاهر مرات كثيرة فإن لكل ظهار كفارة ؟ وقولهم كلهم : إن من أصاب - وهو محرم - صيودا فعليه لكل صيد جزاء بل قال بعضهم : إنه لو أصاب صيدا واحدا - وهو قارن - فعليه جزاءان .

                                                                                                                                                                                          فإن ادعوا في كفارة الإفطار في رمضان إجماعا : ظهر جهل من ادعى ذلك ، أو كذبه ، لأن زفر بن الهذيل وغيره - منهم - يرى أن من أفطر بوطء أو غيره جميع أيام [ ص: 29 ] شهر رمضان - ولم يكفر - فليس عليه إلا كفارة واحدة فقط - وهذا هو الواجب - على قول سعيد بن المسيب - لأن المحفوظ عنه أن شهر رمضان كله صوم واحد ، من أفطر يوما منه فعليه قضاء جميعه يقضي شهرا ، ولا بد ، ومن أفطره كله فعليه شهر واحد أيضا ولا مزيد .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية