الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2193 - مسألة : بأي شيء يكون الضرب في الحد ؟ قال أبو محمد رحمه الله : أما أهل الرأي ، والقياس ، فإنهم قالوا : الحدود كلها بالسوط ، إلا الشافعي رحمه الله قال : إلا الخمر ، فإنه يجلد فيها بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلد فيها

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : احتج من رأى الجلد بالسوط ولا بد في الحدود : بما أنا حمام أنا ابن مفرج أنا ابن الأعرابي أنا الدبري أنا عبد الرزاق أنا معمر عن [ ص: 84 ] يحيى بن أبي كثير قال { جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي ؟ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بسوط ، فأتي بسوط جديد عليه ثمرته ، قال : لا ، سوط دون هذا ؟ فأتي بسوط مكسور العجز ، فقال : لا ، سوط فوق هذا ؟ فأتي بسوط بين السوطين ، فأمر به فجلد } وذكر الخبر

                                                                                                                                                                                          وعن زيد بن أسلم { أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط ، فأتي بسوط مكسور ، فقال : فوق هذا ، فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته ، فقال : بين هذين ، فأتي بسوط قد ركب به ولان ، فأمر به فجلد } وذكر باقي الخبر

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن ربيع أنا ابن مفرج أنا قاسم بن أصبغ أنا ابن وضاح أنا سحنون أنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال : سمعت عبيد الله بن مقسم يقول : سمعت كريبا مولى ابن عباس يحدث أو يحدث عنه قال { أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف على نفسه بالزنى ، ولم يكن الرجل أحصن ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سوطا فوجد رأسه شديدا فرده ، ثم أخذ سوطا آخر فوجده لينا ، فأمر به فجلد مائة }

                                                                                                                                                                                          وعن أبي عثمان النهدي قال : أتي عمر بن الخطاب في حد - ما أدري ما ذلك الحد - فأتي بسوط فيه شدة ، فقال : أريد ما هو ألين فأتي بسوط لين ، فقال : أريد أشد من هذا ، فأتي بسوط بين السوطين فقال : اضرب ولا يرى إبطك

                                                                                                                                                                                          وعن أبي عثمان النهدي قال : أتي عمر بن الخطاب في حد فأتي بسوط ، فهزه فقال : ائتوني بسوط ألين من هذا ، فأتي بسوط آخر ، فقال ائتوني بسوط أشد من هذا ، فأتي بسوط بين السوطين ، فقال : اضرب ولا يرى إبطك ، وأعط لكل عضو حقه

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : ما نعلم لهم شبهة غير ما ذكرنا : أما الآثار - في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرسلة كلها ، ولا حجة في مرسل ، وأضعفها حديث مخرمة بن بكير ، لأنه منقطع في ثلاثة مواضع ، لأن سماع مخرمة من [ ص: 85 ] أبيه لا يصح ، وشك ابن مقسم أسمعه من كريب أم بلغه عنه ؟ ثم هو عن كريب مرسل

                                                                                                                                                                                          ثم لو صح لما كان لهم في شيء منها حجة ، لأنه ليس في شيء منها : أن لا تجلد الحدود إلا بسوط هذه صفته ، وإنما فيه : أن الحدود جائز أن يضرب بسوط هذه صفته فقط ، وهذا أمر لا نأباه - فسقط تعلقهم بالآثار المذكورة

                                                                                                                                                                                          وأما الأثر : عن عمر رضي الله عنه فصحيح إلا أنه لا حجة لهم فيه ، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                          فلما سقط كل ما شغبوا به نظرنا فيما يجب في ذلك فوجدنا الله تعالى يقول في الزاني والزانية { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } إلى قوله تعالى { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين }

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب }

                                                                                                                                                                                          وقال عليه السلام { على ابنك جلد مائة وتغريب عام }

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى في القاذف { فاجلدوهم ثمانين جلدة }

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها }

                                                                                                                                                                                          وقال عليه السلام { إذا شرب فاجلدوه }

                                                                                                                                                                                          ونهى عليه السلام أن يجلد أكثر من عشر جلدات في غير حد ، فأيقنا يقينا لا يدخله شك : أن الله تعالى لو أراد أن يكون الجلد في شيء مما ذكرنا بسوط دون سوط لبينه لنا على لسان رسوله عليه السلام في القرآن ، وفي وحي منقول إلينا ثابت ، كما بين صفة الضرب في الزنى ، وكما بين حضور طائفة من المؤمنين للعذاب في ذلك ، فإذ لم يفعل ذلك تعالى فبيقين ندري أن الله تعالى لم يرد قط أن يكون الضرب في الحدود بسوط خاصة ، دون سائر ما يضرب به ، فإذ ذلك كذلك فالواجب أن يضرب الحد في الزنى والقذف بما يكون الضرب به على هذه الصفة ، بسوط ، أو بحبل من شعر ، أو من كتان ، أو من قنب ، أو صوف ، أو حلفاء ، وغير ذلك ، أو تفر ، أو قضيب من خيزران ; أو غيره ، إلا الخمر ، فإن الجلد فيها على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 86 ]

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق مسلم أنا محمد بن المثنى أنا معاذ بن هشام - هو الدستوائي - أنا قتادة عن أنس بن مالك { أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد ، والنعال }

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البخاري أنا قتيبة بن سعيد أنا أبو ضمرة أنس بن عياض عن يزيد بن الهادي عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال { : أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب فقال اضربوه قال أبو هريرة : فمنا الضارب بيده ، والضارب بنعله ، والضارب بثوبه } وذكر الحديث

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فالجلد في الخمر خاصة يكون بالجريد ، والنعال ، والأيدي ، وبطرف الثوب ، كل ذلك ، أي ذلك رأي الحاكم فهو حسن ، ولا يمتنع عندنا أن يجلد في الخمر أيضا بسوط لا يكسر ، ولا يجرح ، ولا يعفن لحما : كما روينا من طريق مسلم أنا أحمد بن عيسى أنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج قال : بينما نحن عند سليمان بن يسار إذ جاء عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله فحدثه فأقبل علينا فقال : حدثني عبد الرحمن بن جابر عن أبيه عن أبي بردة الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى } فاقتضى هذا أن الضرب بالسوط جائز في كل حد ، وفي التعزير ، وضرب الخمر - وبالله تعالى التوفيق

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية