الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وروينا عن سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي في الصلاة التي تنسى ، قال : يصليها حين يذكرها ، وإن كان في وقت تكره فيه الصلاة ومثله أيضا عن عطاء وطاوس وغيرهم .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان : ثنا شعبة عن موسى بن عقبة قال : سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يقول : إن أباه كان يطوف بعد العصر ، وبعد الغداة ثم يصلي الركعتين قبل طلوع الشمس .

                                                                                                                                                                                          قال موسى : وكان نافع يكره ذلك ، فحدثته عن سالم فقال لي نافع : سالم أقدم مني وأعلم .

                                                                                                                                                                                          قال علي : هذا يدل على رجوع نافع إلى القول بهذا ; وعلى أنه قول موسى بن عقبة - : قال علي : فغلب هؤلاء أحاديث الأوامر على أحاديث النهي ، وقالوا : إن معنى النهي عن الصلاة في هذه الأوقات ، أي إلا أن تكون صلاة أمرتم بها ، فصلوها فيها وفي غيرها .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 58 ] وقال الآخرون : معنى الأمر بهذه الصلوات ، أي إلا أن تكون وقتا نهى فيه عن الصلاة فلا تصلوها فيه .

                                                                                                                                                                                          قال علي : فلما كان كلا العملين ممكنا ، لم يكن واحد منهما أولى من الآخر إلا ببرهان ، فنظرنا في ذلك : فوجدنا ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى : قرأت على مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، وبسر بن سعيد ، وعبد الرحمن الأعرج حدثوه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر } ؟ .

                                                                                                                                                                                          فكان هذا مبينا غاية البيان أن قضاء الصلوات في هذه الأوقات فرض ; وأن الأمر مستثنى من النهي بلا شك ؟ .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : فلم قلتم : إن من أدرك أقل من ركعة من العصر ومن الصبح قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها فإنه يصليهما ؟ .

                                                                                                                                                                                          قلنا : لما نذكره - إن شاء الله عز وجل في أوقات الصلوات - من قوله عليه السلام { وقت صلاة الصبح ما لم يطلع قرن الشمس ، ووقت صلاة العصر ما لم تغرب الشمس } . فكان هذا اللفظ منه عليه السلام ممكنا أن يريد به وقت الخروج من هاتين [ ص: 59 ] الصلاتين ، وممكنا أن يريد به وقت الدخول فيها ؟ .

                                                                                                                                                                                          فنظرنا في ذلك ; فكان هذا الخبر مبينا أن بعد طلوع الشمس وبعد غروبها وقت لبعض صلاة الصبح ، ولبعض صلاة العصر بيقين ; فصح أنه عليه السلام إنما أراد وقت الدخول فيهما ، وكان هذا الخبر هو الزائد على الحديث الذي فيه { من أدرك ركعة } والزيادة واجب قبولها ؟ فوضح أن الأمر مغلب على النهي .

                                                                                                                                                                                          فوجدنا الآخرين قد احتجوا بما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا محمد بن إسماعيل الصائغ ثنا عبد الله بن يزيد المقري حدثنا الأسود بن شيبان ثنا خالد بن شمير قال قدم علينا عبد الله بن رباح من المدينة وكانت الأنصار تفقهه ، فحدثنا قال : حدثنا أبو قتادة الأنصاري فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء فلم يوقظنا إلا الشمس طالعة فقمنا وهلين لصلاتنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم رويدا رويدا ، حتى تعالت الشمس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان منكم يركع ركعتي الفجر فليركعهما ؟ فقام من كان يركعهما ومن لم يكن يركعهما ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادى بالصلاة فيؤذن بها ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا ; فلما انصرف قال : إنا بحمد الله لم نكن في شيء من أمر الدنيا شغلنا عن صلاتنا } وذكر الحديث .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 60 ] حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو أسامة عن هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن الحصين قال : { أسرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عرس بنا من آخر الليل ، فاستيقظنا وقد طلعت الشمس ، فجعل الرجل منا يثور إلى طهوره دهشا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارتحلوا ؟ قال : فارتحلنا ، حتى إذا ارتفعت الشمس نزلنا ، فقضينا من حوائجنا ، ثم توضأنا ; ثم أمر بلالا فأذن فصلى ركعتين ، ثم أقام بلال فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم } وذكر الحديث .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 61 ] حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا هشيم أخبرنا حصين ثنا عبد الله بن أبي قتادة عن أبي قتادة أبيه قال : { سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في سفر ذات ليلة ، فقلنا : يا رسول الله ، لو عرست بنا ؟ قال : إني أخاف أن تناموا عن الصلاة ، فمن يوقظنا بالصلاة ؟ قال بلال : أنا يا رسول الله ، فعرس القوم ، واستند بلال إلى راحلته ، فغلبته عيناه ، واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بدا حاجب الشمس ، فقال : يا بلال ، أين ما قلت ؟ فقال : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، ما ألقيت علي نومة مثلها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قبض أرواحكم حين شاء ; ثم أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشروا لحاجاتهم وتوضئوا ، وارتفعت الشمس ، فصلى بهم الفجر } .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا علي بن حجر أنا إسماعيل هو ابن جعفر - ثنا العلاء بن عبد الرحمن : أنه دخل على أنس بن مالك [ ص: 62 ] في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر ، قال : وداره بجنب المسجد ; فلما دخلنا عليه قال : صليتم العصر ؟ قلنا : لا ، إنما انصرفنا الساعة من الظهر ; قال : فصلوا العصر ، فقمنا فصلينا ، فلما انصرفنا قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { تلك صلاة المنافقين جلس يرقب العصر حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا ، لا يذكر الله فيها إلا قليلا } .

                                                                                                                                                                                          ورويناه من طريق مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس فكانت بين قرني الشيطان أو على قرني الشيطان قام فنقر أربعا ، لا يذكر الله فيها إلا قليلا } .

                                                                                                                                                                                          وبما ذكرناه قبل في مسألة الركعتين بعد العصر من قول ابن مسعود : يطيلون الخطبة ويؤخرون الصلاة حتى يقال : هذا شرق الموتى ، فقيل لابن مسعود : وما شرق الموتى ؟ قال : إذا اصفرت الشمس جدا ، فمن أدرك ذلك منكم فليصل الصلاة لوقتها ، فإن احتبس فليصل معهم ، وليجعل صلاته وحده : الفريضة ، وصلاته معهم : تطوعا .

                                                                                                                                                                                          والحديث الذي ذكرناه من طريق أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، أو يميتون الصلاة عن وقتها ؟ قلت : فما [ ص: 63 ] تأمرني ؟ قال : صل الصلاة لوقتها ، فإن أدركتها معهم فصل ، فإنها لك نافلة } . وقالوا : صح نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة جملة في الأوقات المذكورة ، ونهيه عليه السلام عن الصيام جملة في يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق ، وصح أمره بقضاء الصلوات من نام عنها أو نسيها ، وبالنذر ، وبما ذكرتم من النوافل ، وبقضاء الصوم للحائض والمريض والمسافر ، والنذر والكفارات - : فلم تختلفوا معنا في أن لا يصام شيء من ذلك في الأيام المنهي عن صيامها ، وغلبتم : النهي على الأمر ، فوجب أن يكون كذلك في نهيه عن الصلاة في الأوقات المذكورة ، مع أمره عليه السلام بما أمر به من الصلوات وقضائها ، وإلا فلم فرقتم بين النهيين والأمرين ؟ فغلبتم في الصوم : النهي على الأمر ، وغلبتم في الصلاة : الأمر على النهي ؟ وهذا تحكم لا يجوز ؟ .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : يمكن أن يكون قوله عليه السلام فيمن أدرك ركعة من صلاة الصبح ومن العصر قبل طلوع [ الشمس ] ، وقبل غروبها فقد أدرك الصبح : قبل النهي عن الصلاة في الأوقات المذكورة ؟ .

                                                                                                                                                                                          قال علي : هذا كل ما اعترضوا به ، ما لهم اعتراض غيره أصلا ، ولسنا نعني أصحاب أبي حنيفة ، فإنهم لا متعلق لهم بشيء مما ذكرنا ، إذ ليس منها خبر إلا وقد خالفوه ، وتحكموا فيه بالآراء الفاسدة ، وإنما نعني من ذهب مذهب المتقدمين في تغليب النهي جملة فقط .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وكذلك أيضا لا متعلق للمالكين بشيء مما ذكرنا من الآثار ; لأنه ليس منها شيء إلا وقد خالفوه ، وتحكموا فيه ، وحملوا بعضه على الفرض ، وبعضه على التطوع بلا برهان ، وإنما نعني من ذهب مذهب المتقدمين في تغليب الأمر جملة [ ص: 64 ] والكلام إنما هو بين هاتين الطائفتين فقط ؟ .

                                                                                                                                                                                          قال علي : كل هذا لا حجة لهم فيه .

                                                                                                                                                                                          أما حديثا أبي قتادة وعمران بن الحصين فإنهما قد جاءا ببيان زائد ، كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا محمد بن إسماعيل الصائغ ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن ثابت البناني عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة - فذكر الحديث وفيه - : { مال رسول الله صلى الله عليه وسلم وملت معه ، فقال انظر ؟ فقلت : هذا راكب ، هذان راكبان ، هؤلاء ثلاثة ؟ حتى صرنا سبعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احفظوا علينا صلاتنا يعني صلاة الفجر ، فضرب على آذانهم ، فما أيقظهم إلا حر الشمس ; فقاموا فساروا هنيهة ثم نزلوا فتوضئوا وأذن بلال فصلوا ركعتي الفجر ، ثم صلوا الفجر وركبوا ، فقال بعضهم لبعض : لقد فرطنا في صلاتنا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه لا تفريط في النوم ، إنما التفريط في اليقظة ، فمن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها } ، وذكر باقي الخبر .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية