الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 314 ] 380 - مسألة : ومن تكلم ساهيا في الصلاة فصلاته تامة ; قل كلامه أو كثر ، وعليه سجود السهو فقط ، وكذلك إن تكلم جاهلا . وقال أبو حنيفة : الكلام في الصلاة عمدا وسهوا سواء : تبطل بكليهما ; ورأى السلام في الصلاة عمدا يبطلها ، ولا يبطلها إذا كان سهوا - وهذا تناقض برهان صحة قولنا - : قول الله عز وجل : { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } . حدثنا أحمد بن عمر بن أنس ثنا الحسين بن عبد الله الجرجاني ثنا عبد الرزاق بن أحمد بن عبد الحميد الشيرازي أخبرتنا فاطمة بنت الحسن بن الريان المخزومي وراق بكار بن قتيبة القاضي قالت : ثنا الربيع بن سليمان المؤذن ثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - عن حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن { معاوية بن الحكم السلمي قال بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، [ ص: 315 ] فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن } ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          قال علي : هذا الحديث يبطل قول أبي حنيفة ; لأن فيه أنه كان بعد تحريم الكلام في الصلاة بيقين ، ولم يبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته . فإن قيل : ولا أمره بسجود السهو قلنا : قد صح الأمر بالسجود من زاد في صلاته أو نقص ، فواجب ضم هذا الحكم إلى ما وقع عليه ولا بد وقد حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرني إبراهيم بن يعقوب ثنا الحسن بن موسى ثنا شيبان ثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة هو ابن عبد الرحمن - عن أبي هريرة قال : { بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ركعتين ، فقام رجل من بني سليم فقال : يا رسول الله ، أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تقصر ولم أنس ، فقال : يا رسول الله ، إنما صليت ركعتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحق ما يقول ذو اليدين قالوا : نعم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعتين } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : فغلط في هذا الخبر صنفان : أحدهما - أصحاب أبي حنيفة ، والثاني - ابن القاسم ومن وافقه [ ص: 316 ] فأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم قالوا : لعل هذا الخبر كان قبل تحريم الكلام في الصلاة . وقالوا : الرجل المذكور قتل يوم بدر ، ذكر ذلك سعيد بن المسيب والزهري . وعمدوا إلى لفظ ذكره بعض رواة الخبر وهو { صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم } فقالوا : هذا إخبار بأنه صلى للمسلمين . قال علي : وهذا كله باطل وتمويه وظن كاذب - : أما قولهم : لعله كان قبل تحريم الكلام فباطل ; لأن تحريم الكلام في الصلاة كان قبل يوم بدر بيقين . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا ابن نمير ثنا ابن فضيل هو محمد - ثنا الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال { كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا ، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا ، وقال : إن في الصلاة شغلا } . ولا خلاف في أن ابن مسعود شهد بدرا بعد إقباله من أرض الحبشة وأبو هريرة ، وعمران بن الحصين - وكلاهما متأخر الإسلام - يذكران جميعا حديث ذي اليدين ، وإسلامهما بعد بدر بأعوام - وكذلك معاوية بن خديج أيضا . وأما قولهم : إن الرجل المذكور قتل يوم بدر فتمويه بارد ، لوجوه - : أحدها : أن أعلى من ذكر ذلك فابن المسيب ، ولم يولد إلا بعد بدر ببضعة عشر عاما .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 317 ] والثاني : أن المقتول يوم بدر إنما هو ذو الشمالين ، واسمه عبد عمرو ونسبه الخزاعي ، والمكلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذو اليدين واسمه الخرباق ونسبه سلمي . وأما قولهم : إن قول أبي هريرة { صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم } إنما هو إخبار عن صلاته بالمسلمين الذين أبو هريرة معهم - : فباطل ، يبين ذلك قول أبي هريرة الذي ذكرناه آنفا { بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم } فظهر فساد قولهم . فإن قالوا : قسنا السهو في الكلام على العمد قيل لهم : القياس كله باطل ; ثم لو صح لكان هذا منه عين الباطل ; لأن القائلين بالقياس مجمعون على أن الشيء إنما يقاس على نظيره ، لا على ضده ، والنسيان ضد العمد ثم يقال لهم : فهلا قستم الكلام في الصلاة سهوا على السلام في الصلاة سهوا ، فهو أشبه به ; لأنهما معا كلام فأي شيء قصدوا به إلى التفريق بينهما فإن الفرق بين سهو الكلام وعمده أبين وأوضح - وبالله تعالى التوفيق . وأما ابن القاسم ومن وافقه فإنهم أجازوا بهذا الخبر كلام الناس مع الإمام في إصلاح الصلاة .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وهذا خطأ ، لأن الناس إنما كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ، وتعمد الكلام معه عليه السلام لا يضر الصلاة شيئا ، وكلمهم عليه السلام وهو يقدر أن صلاته قد تمت ، وأن الكلام له مباح ; وكذلك تكلم الناس يومئذ بعضهم مع بعض وهم يظنون أن الصلاة قصرت وتمت . حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم ثنا محمد بن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا محمد بن جعفر غندر - عن شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن { أبي سعيد بن المعلى قال كنت أصلي فرآني النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت ، فقال : ما منعك أن تأتيني قلت : كنت أصلي ، قال : ألم يقل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } [ ص: 318 ] } ثم ذكر باقي الحديث . فصح أن هذا بعد تحريم الكلام في الصلاة ، لامتناع أبي سعيد من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتم الصلاة ، وصح أن الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم مباح في الصلاة هذا خاص له ، وفيه حمل اللفظ على العموم ، وإجماع أهل الإسلام المتيقن على أن المصلي يقول في صلاته " السلام عليك أيها النبي " . ولا يختلف الحاضرون من خصومنا على أن من قال عامدا في صلاته : السلام عليك يا فلان ، أن صلاته قد بطلت - وبالله تعالى التوفيق

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية