الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          494 - مسألة :

                                                                                                                                                                                          ومن نسي صلاة فرض - أي صلاة كانت - فوجد إماما يصلي صلاة أخرى - أي صلاة كانت - في جماعة : ففرض عليه ولا بد أن يدخل فيصلي التي فاتته ، وتجزئه ، ولا نبالي باختلاف نية الإمام والمأموم وجائز صلاة الفرض خلف المتنفل : والمتنفل خلف من يصلي الفرض ، وصلاة فرض خلف من يصلي صلاة فرض أخرى ، كل ذلك حسن ، وسنة ؟ ولو وجد المرء جماعة تصلي التراويح في رمضان ، ولم يكن صلى العشاء الآخرة ، فليصلها معهم ، ينوي فرضه ، فإذا سلم الإمام ولم يكن هو أتم صلاته فلا يسلم ، بل يقوم ، فإن قام الإمام إلى الركعتين : قام هو أيضا فائتم به فيهما ، ثم يسلم بسلام [ ص: 141 ] الإمام - وكذلك لو ذكر صلاة فائتة ؟ وجائز أن يصلي إمام واحد بجماعتين فصاعدا في مساجد شتى صلاة واحدة هي لهم : فرض ، وكلها له : نافلة ، سوى التي صلى أولا .

                                                                                                                                                                                          وكذلك من صلى صلاة فرض في جماعة فجائز له أن يؤم في تلك الصلاة جماعة أخرى وجماعة بعد جماعة . ؟ ومن فاتته الصبح فوجد قوما يصلون الظهر صلى معهم ركعتين ينوي بهما الصبح ، ثم سلم ، وصلى الباقيتين بنية الظهر ، ثم أتم ظهره ، وهكذا يعمل في كل صلاة على حسب ما ذكرنا : وهذا قول الشافعي ، وأبي سليمان .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة ومالك : لا يجوز أن تختلف نية الإمام والمأموم .

                                                                                                                                                                                          قال علي : إن من العجب أن يكون الحنيفيون يجيزون الوضوء للصلاة والغسل من الجنابة بغير نية ، أو بنية التبرد .

                                                                                                                                                                                          وفيهم من يجيز صوم رمضان بنية الإفطار ، وترك الصوم وكلهم يجيزه بنية التطوع ويجزئه عن فرضه ، وبنية الفطر إلى زوال الشمس ، فيبطلون النيات حيث أوجبها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم يوجبونها ههنا حيث لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وفي المالكيين من يجزئ عنده غسل الجمعة ، ودخول الحمام من غسل الجنابة ، فيسقطون النية حيث هي فرض ، ويوجبونها حيث لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وإنما يجب الكلام في وجوب اتفاق نية الإمام والمأموم ، أو في سقوط وجوبه ، فإذا سقط وجوبه صحت المسائل التي ذكرنا كلها ، لأنها مبنية على هذا الأصل ، ومنتجة منه ؟ قال علي : فنقول وبالله تعالى التوفيق : إنه لم يأت قط : قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قياس : يوجب اتفاق نية الإمام والمأموم ، وكل شريعة لم يوجبها قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، فهي غير واجبة ، وهذه شريعة لم يوجبها شيء مما ذكرنا ، فهي باطل ؟

                                                                                                                                                                                          [ ص: 142 ] ثم البرهان يقوم على سقوط وجوب ذلك ، وقد كان يكفي من سقوطه عدم البرهان على وجوبه ؟ قال علي : من المحال أن يكلفنا الله تعالى موافقة نية المأموم منا لنية الإمام لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }

                                                                                                                                                                                          وليس في وسعنا علم ما غيب عنا من نية الإمام حتى نوافقها ، وإنما علينا ما يسعنا ونقدر عليه من القصد بنياتنا تأدية ما أمرنا به كما أمرنا ، وهذا برهان ضروري سمعي وعقلي وبرهان آخر : وهو قول الله تعالى : { لا تكلف إلا نفسك } وهذا نص جلي كاف في إبطال قولهم فإن قالوا : قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنما جعل الإمام ليؤتم به } ؟ قلنا : نعم ، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم - في هذا الخبر نفسه - المواضع التي يلزم الائتمام بالإمام فيها ، وهي قوله عليه السلام : { فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا }

                                                                                                                                                                                          فهاهنا أمر عليه السلام بالائتمام فيه ، لا في النية التي لا سبيل إلى معرفتها لغير الله تعالى ، ثم لناويها وحده ؟ والعجب كل العجب أن المحتجين بهذا الخبر فيما ليس فيه منه أثر - من إيجاب موافقة نية المأموم لنية الإمام - : أول عاصين لهذا الخبر - : فيقولون : لا يقتدي المأموم بالإمام في قول " سمع الله لمن حمده " فإذا قيل لهم : هذا ؟ قالوا : لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ؟ فقيل لهم : ولا نهى عنه ، ولا ذكر عليه السلام أيضا موافقة نية المأموم للإمام ، لا في هذا ولا في غيره .

                                                                                                                                                                                          ثم خالفه المالكيون في أمره بأن نصلي قعودا إذا صلى قاعدا ، فأي عجب أعجب من احتجاجهم بخبر يخالفون نص ما فيه ويوجبون به ما ليس فيه ؟ نعوذ بالله من مثل هذا ؟

                                                                                                                                                                                          [ ص: 143 ] وقال عليه السلام : { إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى }

                                                                                                                                                                                          فنص عليه السلام نصا جليا على أن لكل أحد ما نوى .

                                                                                                                                                                                          فصح يقينا أن للإمام نيته ، وللمأموم نيته ، لا تعلق لإحداهما بالأخرى ، وما عدا هذا فباطل بحت لا شك فيه - وبالله تعالى نتأيد ؟ - : حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى أنا هشيم عن منصور عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله { أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة ، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة }

                                                                                                                                                                                          وبه إلى مسلم : ثنا محمد بن عباد ثنا سفيان هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله { أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي فيؤم قومه ، فصلى ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ، ثم أتى قومه فأمهم ، فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف ، فقالوا له : أنافقت يا فلان ؟ قال : لا والله ، ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار ، وإن معاذا صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال : يا معاذ ، أفتان أنت ؟ اقرأ بكذا واقرأ بكذا } .

                                                                                                                                                                                          فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم بالأمر وأقره على حاله ولم ينكرها ؟ حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ثنا يحيى بن سعيد هو القطان - عن محمد بن عجلان ثنا عبيد الله بن مقسم عن جابر بن عبد الله { أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يأتي قومه فيصلي بهم تلك الصلاة . }

                                                                                                                                                                                          قال علي : إنما أوردنا هذا الخبر ; لأن بعض من لا يردعه دين عن الكذب قال : لم [ ص: 144 ] يرو أحد هذه اللفظة إلا عمرو بن دينار ؟ فأريناه : أنه قد رواها عبيد الله بن مقسم ، وهو متفق على ثقته ، ثم حتى لو انفرد بها عمرو فكان ماذا ؟ ما يختلف مسلمان في أن عمرا هو النجم الثاقب ثقة وحفظا وإمامة ، وبلا شك فهو فوق أبي حنيفة ومالك اللذين يعارض هؤلاء السنن برأيهما الذي أخطآ فيه ; لأن عمرا لقي الصحابة وأخذ عنهم . وأقل مراتب عمرو : أن يكون في نصاب شيوخ مالك ، وأبي حنيفة : كالزهري ، ونافع ، وحماد بن أبي سليمان وغيرهم . وقد روى عن عمرو من هو أجل من مالك ، وأبي حنيفة ومثلهما : كأيوب ، ومنصور ، وشعبة ، وحماد بن زيد ، وسفيان ، وابن جريج وغيرهم . فكيف وقد صح في هذا ما هو أجل من فعل معاذ ؟

                                                                                                                                                                                          كما حدثنا يونس بن عبد الله ثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان عن الأشعث بن عبد الملك الحمراني عن الحسن البصري { عن أبي بكرة أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فصلى بالذين خلفه ركعتين ، والذين جاءوا بعد ركعتين ، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربعا ، ولهؤلاء ركعتين }

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا عبيد الله بن معاذ بن العنبري ثنا أبي ثنا الأشعث هو ابن عبد الملك عن الحسن البصري عن أبي بكرة قال { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر ، فصف بعضهم خلفه ، وبعضهم بإزاء العدو ، فصلى ركعتين ثم سلم ، فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ، ثم جاء أولئك فصفوا خلفه ، فصلى بهم ركعتين ثم سلم ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا ولأصحابه : ركعتين ، ركعتين } وبه كان يفتي الحسن ؟ قال علي : وقد صح سماع الحسن من أبي بكرة - : كما قد حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن منصور ثنا سفيان هو ابن عيينة أنا أبو موسى هو إسرائيل بن موسى - قال : سمعت الحسن يقول : سمعت أبا بكرة يقول : { لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على [ ص: 145 ] المنبر ، والحسن بن علي معه } وذكر الحديث .

                                                                                                                                                                                          وأبو موسى هذا : ثقة روى عنه سفيان والحسين بن علي الجعفي ؟ حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عفان هو ابن مسلم - ثنا أبان هو ابن يزيد العطار - ثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن جابر قال { أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع } وذكر الحديث . قال { : فنودي بالصلاة ، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا ، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين . قال جابر : فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتان } . قال علي : وهذا حديث سمعه يحيى من أبي سلمة وسمعه أبو سلمة من جابر ، ورويناه كذلك من طرق ، اكتفينا بهذا طلب الاختصار . فهذا آخر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أبا بكرة شهده ، وإنما كان إسلامه يوم الطائف بعد فتح مكة وبعد حنين وقد لجأ بعضهم إلى ما يلجأ إليه المفضوح المبلح الذي لا يتقي الله تعالى فيما يتكلم به فقال : ليس في حديث جابر : أنه سلم عليه السلام بين الركعتين ، والركعتين ؟ قال علي : فيقال له : كذبت ، قد روينا من طريق قتادة عن سليمان اليشكري عن جابر { أنه عليه السلام سلم بينهما } . فقالوا : قد تكلم في سماع قتيبة من سليمان ؟ فقلنا : أنتم تقولون : المرسل كالمسند ، فالآن أتاكم التعلل بالباطل في المسند بأنه قد قيل - ولم يصح ذلك القول - : أنه مرسل ، إن هذا لعجب لا سيما وقد بين أبو بكرة [ ص: 146 ] في حديثه أنه عليه السلام سلم بين الركعتين والركعتين ، ولم يرو أحد : أنه عليه السلام لم يسلم بين الركعتين والركعتين ؟ ولو صح : أنه عليه السلام لم يسلم بين الركعتين والركعتين لكان ذلك أشد على المخالفين ،

                                                                                                                                                                                          لأنهم إنما هم مقلدو أبي حنيفة ، ومالك وأبو حنيفة يرى على من صلى أربعا وهو مسافر : أن صلاته فاسدة ، إلا أن يجلس في الاثنتين مقدار التشهد فتصح صلاته ، وتكون الركعتان اللتان يقوم إليهما تطوعا .

                                                                                                                                                                                          فإن كان عليه السلام لم يقعد بين الركعتين مقدار التشهد فصلاته عندهم فاسدة ، فإن أقدموا على هذا القول كفروا بلا مرية .

                                                                                                                                                                                          وإن كان عليه السلام قعد بين الركعتين مقدار التشهد ، فقد صارت الطائفة الثانية مصلية فرضهم خلفه ، وهو عليه السلام متنفل ، وهذا قولنا لا قولهم ؟ وأما المالكيون فإنهم يقولون : إن المسافر إن صلى أربعا : فقد أساء في صلاته وعليه أن يعيدها في الوقت . فإن قالوا : هذا في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بلا مرية ، وإن قالوا : بل سلم بين الركعتين والركعتين : أقروا بأن الطائفة الثانية رضي الله عنهم صلوا فرضهم خلفه عليه السلام وهو متنفل وهذا إجماع صحيح من جميع الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ممن حضر ، ولا يخفى مثل هذا على من غاب ، وكلهم مسلم لأمره عليه السلام ؟ وقد لجأ بعض المفتونين من مقلدي مالك إلى أن قال : هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن في الائتمام به من البركة في النافلة ما ليس في الائتمام بغيره في الفريضة ؟ - : قال علي : فر هذا البائس من الإذعان للحق إلى الكذب على الله تعالى في دعواه الخصوص فيما لم يقل عليه السلام قط : إنه خصوص له .

                                                                                                                                                                                          بل قد صح عنه عليه السلام من طريق مالك بن الحويرث أنه قال { صلوا كما تروني أصلي . }

                                                                                                                                                                                          [ ص: 147 ] وقال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } .

                                                                                                                                                                                          وما قال قط أحد : إنه يجوز معه عليه السلام في الصلاة ما لا يجوز مع غيره ، إلا هؤلاء المقدمون ، نصرا لتقليدهم الفاسد

                                                                                                                                                                                          ونعوذ بالله من الخذلان . قال علي : واعترضوا في حديث معاذ بأشياء نذكرها ، وإن كنا غانين عن ذلك بحديث أبي بكرة وجابر ، لكن نصر الحق فضيلة ، وقمع الباطل وسيلة إلى الله تعالى

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية