الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 52 ] مسألة :

                                                                                                                                                                                          وللحج ، والعمرة مواضع تسمى : المواقيت ، واحدها : ميقات لا يحل لأحد أن يحرم بالحج ، ولا بالعمرة قبلها .

                                                                                                                                                                                          وهي لمن جاء من جميع البلاد على طريق المدينة ، أو كان من أهل المدينة : ذو الحليفة - وهو من المدينة على أربعة أميال - وهو من مكة على مائتي ميل - غير ميلين .

                                                                                                                                                                                          ولمن جاء من جميع البلاد ، أو من الشام ، أو من مصر على طريق مصر ، أو على طريق الشام : الجحفة - وهي فيما بين المغرب والشمال - من مكة ومنها إلى مكة اثنان وثمانون ميلا .

                                                                                                                                                                                          ولمن جاء من طريق العراق منها ، ومن جميع البلاد : ذات عرق - وهو بين المشرق والشمال - من مكة ، ومنها إلى مكة اثنان وأربعون ميلا .

                                                                                                                                                                                          ولمن جاء على طريق نجد من جميع البلاد كلها : قرن - وهو شرقي من مكة - ومنه إلى مكة اثنان وأربعون ميلا .

                                                                                                                                                                                          ولمن جاء على طريق اليمن منها ، أو من جميع البلاد : يلملم - وهو جنوب من مكة - ومنه إلى مكة ثلاثون ميلا .

                                                                                                                                                                                          فكل من خطر على أحد هذه المواضع وهو يريد الحج ، أو العمرة ، فلا يحل له أن يتجاوزه إلا محرما فإن لم يحرم منه : فلا إحرام له ، ولا حج له ، ولا عمرة له إلا أن يرجع إلى الميقات الذي مر عليه فينوي الإحرام منه ، فيصح حينئذ إحرامه ، وحجه ، وعمرته .

                                                                                                                                                                                          فإن أحرم قبل شيء من هذه المواقيت وهو يمر عليها : فلا إحرام له ، ولا حج له ، ولا عمرة له إلا أن ينوي إذا صار في الميقات تجديد إحرام فذلك جائز ، وإحرامه حينئذ تام ، وحجه تام ، وعمرته تامة .

                                                                                                                                                                                          ومن كان من أهل الشام ، أو مصر فما خلفهما فأخذ على طريق المدينة - وهو يريد حجا ، أو عمرة - فلا يحل له تأخير الإحرام من ذي الحليفة ليحرم من الجحفة ، فإن فعل فلا حج له ، ولا إحرام له ، ولا عمرة له إلا أن يرجع إلى ذي الحليفة ، فيجدد منها إحراما : فيصح حينئذ إحرامه ، وحجه ، وعمرته .

                                                                                                                                                                                          فمن مر على أحد هذه المواقيت وهو لا يريد حجا ، ولا عمرة فليس عليه أن [ ص: 53 ] يحرم ، فإن تجاوزه بقليل ; أو بكثير ثم بدا له في الحج ; أو في العمرة فليحرم من حيث بدا له في الحج ، أو العمرة ، وليس عليه أن يرجع إلى الميقات ، ولا يجوز له الرجوع إليه ، وميقاته حينئذ الموضع الذي بدا له في الحج ، أو العمرة : فلا يحل له أن يتجاوزه إلا محرما - فإن فعل ذلك : فلا إحرام له ، ولا حج له ، ولا عمرة له إلا أن يرجع إلى ذلك الموضع فيجدد منه إحراما .

                                                                                                                                                                                          فمن كان منزله بين الميقات ومكة فميقاته من منزله كما ذكرنا سواء سواء ، أو من الموضع الذي بدا له أن يحج منه أو يعتمر كما قدمنا .

                                                                                                                                                                                          ومن كان من أهل مكة فأراد الحج فميقاته منازل مكة ، وإن أراد العمرة فليخرج إلى الحل فليحرم منه وأدنى ذلك : التنعيم .

                                                                                                                                                                                          ومن كان طريقه لا تمر بشيء من هذه المواقيت فليحرم من حيث شاء برا أو بحرا ; فإن أخرجه قدر بعد إحرامه إلى شيء من هذه المواقيت ففرض عليه أن يجدد منها نية إحرام ولا بد .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : ما حدثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا عمر بن منصور نا هشام بن بهرام نا المعافري هو ابن عمران الموصلي - نا أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن عائشة أم المؤمنين { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام ، ومصر : الجحفة ; ولأهل العراق : ذات عرق ، ولأهل اليمن : يلملم } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هشام بن بهرام ثقة ، والمعافي ثقة ، كان سفيان يسميه : الياقوتة الحمراء ; وباقيهم أشهر من ذلك - : نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة نا يحيى بن آدم نا وهيب هو ابن خالد - نا عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة : ذا الحليفة ; ولأهل الشام : الجحفة ، ولأهل نجد : قرن المنازل ، ولأهل اليمن : يلملم . وقال : هن لهم ولكل آت أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن [ ص: 54 ] كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة } .

                                                                                                                                                                                          نا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري نا البخاري نا مسدد نا حماد هو ابن زيد - عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال : { وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة : ذا الحليفة ; ولأهل الشام : الجحفة ; ولأهل نجد : قرن المنازل ; ولأهل اليمن : يلملم ، فهن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله ، وكذاك حتى أهل مكة يهلون منها } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فهذه الأخبار أتم من كل خبر روي في ذلك وأصح وهي منتظمة كل ما ذكرنا فصلا فصلا - : قال أبو محمد : وفي بعض ما ذكرنا خلاف - : فمنه أن قوما ادعوا أن ميقات أهل العراق : العقيق واحتجوا بخبر لا يصح لأن راويه يزيد بن زياد - وهو ضعيف - عن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس عن عباس .

                                                                                                                                                                                          ومنه أن المالكيين قالوا : من مر على المدينة من أهل الشام خاصة فلهم أن يدعوا الإحرام إلى الجحفة ; لأنه ميقاتهم وليس ذلك لغيرهم ; ومنع من ذلك أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان ، وغيرهم ، وهو الحق ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة } .

                                                                                                                                                                                          فقد صار ذو الحليفة ميقاتا للشامي ، والمصري إذا أتى عليه وكان إن تجاوزه غير محرم عاصيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما الميقات لمن مر عليه بنص كلامه عليه السلام لا لمن لم يمر عليه فقط .

                                                                                                                                                                                          ولو أن مدنيا يمر على الجحفة يريد الحج وعرضت له مع ذلك حاجة إلى المدينة لم يجز له أن يؤخر الإحرام إلى ذي الحليفة - : [ ص: 55 ] روينا من طريق سعيد بن منصور نا عبد العزيز هو ابن محمد الدراوردي - أخبرني هشام بن عروة عن أبيه ، وسعيد بن المسيب قالا جميعا : من مر من أهل الآفاق بالمدينة أهل من مهل النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة ; وروينا عن عطاء مثل قول مالك : وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن جريج أخبرني نافع عن ابن عمر قال : أهل مصر ، ومن مر من أهل الجزيرة على المدينة في الميقات من أهل الشام .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : قول ابن عمر هذا يوجب عليهم تأخير الإحرام إلى الجحفة ; ومنه من كانت طريقه على غير المواقيت فإن قوما قالوا : إذا حاذى الميقات لزمه أن يحرم - وهو قول عطاء - واحتجوا بما رويناه من طريق ابن عمر قال : إن أهل العراق شكوا إلى عمر في حجهم أن " قرن المنازل " جور عن طريقهم ; فقال لهم : انظروا حذوها من طريقكم ؟ فحد لهم " ذات عرق " .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الخبر المسند في توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق وقد ذكرناه آنفا فإنما حد لهم عمر ما حد لهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم لو لم يصح في ذلك خبر لما كان في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة ويكفي من ذلك قوله عليه السلام الذي ذكرنا آنفا " ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ " .

                                                                                                                                                                                          وقد صح عن ابن عمر أنه لم يسمع توقيت النبي صلى الله عليه وسلم يلملم ; فرواية من سمع ، وعلم : أتم من رواية من سمع بعضا ولم يسمع بعضا ؟ وبرهان آخر - : وهو أن جميع الأمة مجمعون إجماعا متيقنا على أن من كان طريقه لا يمر بشيء من المواقيت فإنه لا يلزمه الإحرام قبل محاذاة موضع الميقات .

                                                                                                                                                                                          ثم اختلفوا إذا حاذى موضع الميقات ، فقالت طائفة : يلزمه أن يحرم ، وقال آخرون : لا يلزمه ; فلا يجوز أن يجب فرض بغير نص ولا إجماع .

                                                                                                                                                                                          ومنه من تجاوز الميقات وهو يريد حجا أو عمرة فلم يحرم وأحرم بعده فإن أبا حنيفة قال : هو مسيء ويرجع إلى ميقاته فيلبي منه ولا دم عليه ولا شيء ; فإن رجع إلى [ ص: 56 ] الميقات ولم يلب منه فعليه دم شاة ، وكذلك عليه دم إن لم يرجع إلى الميقات ، وحجه وعمرته تامان في كل ذلك .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ما نعلم أحدا قبله قسم هذا التقسيم [ الطريف ] من إسقاطه الدم برجوعه إلى الميقات وتلبيته منه وإثباته الدم إن لم يرجع ، أو إن رجع إلى الميقات ولم يلب وهذا أمر لا يوجبه قرآن ، ولا سنة صحيحة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول صاحب ، ولا تابع ، ولا قياس ، ولا نظر يعقل ؟ وقال مالك ; وسفيان ، والأوزاعي ، والحسن بن حي ، والليث ، وأبو يوسف : إن رجع إلى الميقات فأحرم منه ; فلا شيء عليه ، ولا دم ولا غيره لبى أو لم يلب ; وإن لم يرجع فعليه دم ، وحجه ، وعمرته : صحيحان .

                                                                                                                                                                                          وقال زفر : عليه دم شاة رجع إلى الميقات أو لم يرجع .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : روينا من طريق ابن أبي شيبة قال : نا وكيع وابن علية قال وكيع : عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ; وقال ابن علية : عن أيوب السختياني عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد ثم اتفق حبيب ، وجابر كلاهما عن ابن عباس : أنه كان يرد إلى الميقات الذين يدخلون مكة بغير إحرام ، قال جابر : رأيته يفعل ذلك ، ومن طريق عبد الرزاق عن ابن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس قال : إذا زل الرجل عن الوقت - وهو غير محرم - فإنه يرجع إلى الميقات فإن خشي أن يفوته الحج تقدم وأهراق دما .

                                                                                                                                                                                          وعن ليث عن عطاء عن ابن عباس إذا لم يهل من ميقاته أجزأه وأراق دما - ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن إسماعيل عن وبرة : أن رجلا دخل مكة - وعليه ثياب وقد حضر الحج وخاف إن رجع فوته - فأمره ابن الزبير أن يهل من مكانه فإذا قضى الحج خرج إلى الوقت فأهل بعمرة .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية