الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثم ينبني على هذه المسألة مسألة أخرى وهي أنه بعد ما اكتسب ما لا بد منه هل الاشتغال بالاكتساب أفضل أم التفرغ للعبادة ؟ قال بعض الفقهاء رحمهم الله : الاشتغال بالكسب أفضل ، وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن التفرغ للعبادة أفضل ، وجه القول الأول أن منفعة الاكتساب أعم ، فإن ما يكتسبه الزارع تصل منفعته إلى الجماعة عادة ، والذي يشتغل بالعبادة [ ص: 252 ] إنما ينفع نفسه ; لأنه بفعله يحصل النجاة لنفسه ويحصل الثواب لجسمه وما كان أعم نفعا .

، فهو أفضل لقوله عليه السلام { خير الناس من ينفع الناس } ، ولهذا كان الاشتغال بطلب العلم أفضل من التفرغ للعبادة ; لأن منفعة ذلك أعم ، ولهذا كانت الإمارة والسلطنة بالعدل أفضل من التخلي للعبادة ، كما اختاره الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم ; لأن ذلك أعم نفعا وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { العبادة عشرة أجزاء } وقوله عليه السلام { الجهاد عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال للإنفاق على العيال } والدليل عليه أنه بالكسب يتمكن من أداء أنواع الطاعات من الجهاد والحج والصدقة وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الأقارب والأجانب ، وفي التفرغ للعبادة لا يتمكن إلا من أداء بعض الأنواع كالصوم والصلاة .

وجه القول الآخر ، وهو الأصح أن الأنبياء والرسل ما اشتغلوا بالكسب في عامة الأوقات ، ولا يخفى على أحد أن اشتغالهم بالعبادة في عمرهم كان أكثر من اشتغالهم بالكسب ومعلوم أنهم كانوا يختارون لأنفسهم أعلى الدرجات ، ولا شك أن أعلى مناهج الدين طريق المرسلين عليهم السلام وكذا الناس في العادة إذا أحرجهم أمر يحتاجون إلى دفعه عن أنفسهم يشتغلون بالعبادات لا بالكسب والناس إنما يتقربون إلى العباد دون المكتسبين والدليل عليه أن الاكتساب يصح من الكافر والمسلم جميعا فكيف يستقيم القول بتقديمه على ما لا يصح إلا من المؤمنين خاصة وهي العبادة ، والدليل عليه أن { النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الأعمال قال أحمزها } أي أشقها على البدن ، وإنما أشار بهذا إلى أن المرء ينال أعلى الدرجات بمنع النفس هواها قال الله تعالى { ونهى النفس عن الهوى } الآية

والاشتغال بهذه الصفة في الانتهاء والدوام في العبادات فأما الكسب ففيه بعض التعب في الابتداء ، ولكنه فيه قضاء الشهوة في الانتهاء وتحصيل مراد النفس فلا بد من القول بأن ما يكون بخلاف هوى النفس ابتداء وانتهاء ، فهو أفضل ، ولا يدخل في شيء مما ذكرنا النكاح ، فإن الاشتغال بالنكاح أفضل عندنا من التخلي لعبادة الله تعالى ، وهذا المعنى موجود فيه ; لأنه إنما كان ذلك أفضل لما فيه من تكثير عباد الله تعالى وأمة رسوله عليه السلام وتحقيق مباهاة رسول الله بهم ، وذلك لا يوجد هنا فكان التفرغ للعبادة أفضل من الاشتغال بالكسب بعد ما يحصل ما لا بد منه

التالي السابق


الخدمات العلمية