الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثم الكسب على مراتب فمقدار ما لا بد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد اكتسابه غنيا أو فقيرا ; لأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرائض إلا به وما يتوصل به إلى إقامة الفرائض يكون فرضا فإن لم يكتسب زيادة على ذلك ، فهو في سعة من ذلك لقوله عليه السلام { من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه ، وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها } { وقال عليه السلام لابن خنيس رضي الله عنه فيما يعظه لقمة تسد بها جوعتك وخرقة تواري بها سوأتك فإن كان لك كن يكنك فحسن ، وإن كان لك دابة تركبها بخ بخ }

وهذا إذا لم يكن عليه دين فإن كان عليه دين فالاكتساب بقدر ما يقضي به دينه فرض عليه ; لأن قضاء الدين مستحق عليه إن كان غنيا قال عليه السلام { الدين مقضي وبالاكتساب يتوصل إليه }

وكذا إن كان له عيال من زوجة وأولاد صغار ، فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم غنيا ; لأن الإنفاق على زوجته مستحق عليه قال الله تعالى { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } معناه فأنفقوا عليهن من وجدكم وهكذا في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وقال جل وعلا { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } الآية ، وقال عز وجل { ومن قدر عليه رزقه فلينفق } الآية .

وإنما يتوصل إلى إيفاء هذا المستحق بالكسب وقال صلى الله عليه وسلم { كفى بالمرء إثما أن يضيع من يمون } فالتحرز عن ارتكاب المآثم فرض ، وقال عليه السلام { إن لنفسك عليك حقا ، وإن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه } ، ولكن هذا في الفرضية دون الأول لقوله عليه السلام { ثم من تعول } فإن اكتسب زيادة على ذلك ما يدخره لنفسه وعياله ، فهو في سعة من ذلك لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر قوت عياله لسنة بعد ما كان منهيا عن ذلك } على ما روي { أنه صلى الله عليه وسلم قال لبلال رضي الله عنه أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا } والمتأخر يكون ناسخا للمتقدم فإن كان له أبوان كبيران معسران ، فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهما ; لأن نفقتهما مستحقة عليه بعد عسرته إذا كان متمكنا من الكسب { قال عليه السلام للرجل الذي أتاه وقال أريد الجهاد معك ألك أبوان قال نعم قال عليه السلام [ ص: 257 ] ارجع ففيهما فجاهد } يعني اكتسب وأنفق عليهما ، وقال تعالى { وصاحبهما في الدنيا معروفا } وليس من المصاحبة بالمعروف تركهما يموتان جوعا مع قدرته على الكسب ، ولكن هذا دون ما سبق في الفرضية لما روي { أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم معي دينار فقال عليه السلام أنفقه على نفسك فقال معي آخر فقال عليه السلام أنفقه على عيالك قال معي آخر قال عليه السلام أنفقه على والديك } الحديث فأما غير الوالدين من ذوي الرحم المحرم فلا يفترض على المرء الكسب للإنفاق عليهم ; لأنه لا تستحق نفقتهم عليه إلا باعتبار صفة اليسار ، ولكنه يندب إلى الكسب والإنفاق عليهم لما فيه من صلة الرحم ، وهو مندوب إليه في الشرع قال عليه السلام لا خير فيمن لا يحب المال فيصل به رحمه ويكرم به ضيفه ويبر به صديقه { وقال عليه السلام لعمرو بن العاص رضي الله عنه وأرغب لك رغبة من المال } . . . الحديث ، إلى أن قال : { نعم المال الصالح للرجل الصالح يصل به رحمه } وقطيعة الرحم حرام لقوله عليه السلام { ثلاث معلقات بالعرش النعمة والأمانة والرحم تقول النعمة : كفرت ولم أشكر ، وتقول الأمانة : ضيعت ولم أؤد ، وتقول الرحم : قطعت ولم أوصل } وقال عليه الصلاة والسلام { صلة الرحم تزيد في العمر وقطيعة الرحم ترفع البركة من العمر } { قال عليه السلام فيما يؤثر عن ربه عز وجل أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته } ، وفي ترك الإنفاق عليهم ما يؤدي إلى قطيعة الرحم فيندب إلى الاكتساب للإنفاق عليهم وبعد ذلك الأمر موسع عليه فإن شاء اكتسب وجمع المال ، وإن شاء أبى .

; لأن السلف رحمهم الله منهم من جمع المال ومنهم من لم يفعل فعرفنا أن كلا الفريقين مباح أما الجمع فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { من طلب الدنيا حلالا متعففا لقي الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر ، ومن طلبها مفاخرا مكاثرا لقي الله تعالى ، وهو عليه غضبان } فدل أن جمع المال على طريق التعفف مباح وكان عليه السلام يقول في دعائه { اللهم اجعل أوسع رزقي عند كبر سني وانقضاء عمري } وكان كذا ، فقد اجتمع له أربعون شاة حلوبة وفدك وسهم بخيبر في آخر عمره .

وأما الامتناع من جمع المال فطريق مباح أيضا لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى إليهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب } وقيل هذا كان مما يتلى في القرآن في سورة يونس من الركوع الثاني أو الثالث ثم انتسخت تلاوته وبقيت روايته وقال عليه السلام { تبا للمال } ، وفي رواية لصاحب [ ص: 258 ] الذهب والفضة وقال صلى الله عليه وسلم { هلك المكثرون إلا من قال بماله هكذا وهكذا } يعني يتصدق من كل جانب وقال عليه السلام { يقول الشيطان : لن ينجو مني صاحب المال من إحدى ثلاث : إما أن أزينه في عينه فيجمعه من غير حله ، وإما أن أحقره في عينه فيعطي في غير حله ، وإما أن أحببه إليه فيمنع حق الله تعالى منه } ففي هذا بيان أن الامتناع من الجمع أسلم ، ولا عيب على من اختار طريق السلامة ثم بين محمد رحمه الله أن الكسب فيه معنى المعاونة على القرب والطاعات أي كسب كان حتى قال : إن كسب فتال الحبال ومتخذ الكيزان والجرار وكسب الحركة فيه معاونة على الطاعات والقرب ، فإنه لا يتمكن من أداء الصلاة إلا بالطهارة ويحتاج ذلك إلى كوز يستقى به الماء وإلى دلو ورشاء ينزح به الماء ويحتاج إلى ستر العورة لأداء الصلاة ، وإنما يتمكن من ذلك بعمل الحركة فعرفنا أن ذلك كله من أسباب التعاون على إقامة الطاعة وإليه أشار علي رضي الله عنه في قوله لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة ، وقال أبو ذر رضي الله عنه حين سأله رجل عن أفضل الأعمال بعد الإيمان فقال : الصلاة وأكل الخبز فنظر إليه الرجل كالمتعجب فقال : لولا الخبز ما عبد الله تعالى يعني بأكل الخبز يقيم صلبه فيتمكن من إقامة الطاعة .

ثم المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله أن المكاسب كلها في الإباحة سواء ، وقال بعض المتقشفة ما يرجع إلى الدناءة من المكاسب في عرف الناس لا يسع الإقدام عليه إلا عند الضرورة لقوله عليه السلام { ليس للمؤمن أن يذل نفسه } وقال عليه السلام { إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها } والسفساف ما يدني المرء ويبخسه

وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام { إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصوم ، ولا الصلاة قيل : فما يكفرها يا رسول الله قال الهموم في طلب المعيشة } وقال عليه السلام { طلب الحلال كمقارعة الأبطال ، ومن بات وانيا من طلب الحلال مات مغفورا له } وقال عليه السلام { أفضل الأعمال الاكتساب للإنفاق على العيال } من غير تفصيل بين أنواع الكسب ، ولو لم يكن فيه سوى التعفف والاستغناء عن السؤال لكان مندوبا إليه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال { السؤال آخر كسب العبد } أي يبقى في ذله إلى يوم القيامة { وقال عليه السلام لحكيم بن حزام رضي الله عنه أو لغيره مكسبة فيها نقص المرتبة خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك } ثم المذمة في عرف الناس ليست للكسب بل للخيانة وخلف الوعد واليمين الكاذبة ومعنى البخل

التالي السابق


الخدمات العلمية