الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : وإذا نظر إلى فرج امرأته فأنزل فصومه تام ما لم يمسها وقال مالك رحمه الله تعالى : إن نظر مرة فكذلك ، وإن نظر مرتين فسد صومه لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي لا تتبع النظرة النظرة فإنما الأولى لك ، والأخرى عليك } ; ولأن النظر الأول يقع بغتة فلا ينعدم به الإمساك فإذا تعمد النظر بعد ذلك حتى أنزل فقد فوت ركن الصوم .

( ولنا ) أن النظر كالتفكر على معنى أنه مقصور عليه غير متصل بها ، ولو تفكر في جمال امرأة فأنزل لم يفسد صومه فكذلك إذا نظر إلى فرجها ، ولو كان هذا مفسدا للصوم لم يشترط فيه [ ص: 71 ] التكرار كالمس وتأويل الحديث المؤاخذة بالمأثم إذا تعمد النظر إلى ما لا يحل ، وإن جامعها متعمدا فعليه أن يتم صوم ذلك اليوم بالإمساك تشبها بالصائمين ، وعليه قضاء ذلك اليوم والكفارة إما وجوب القضاء فقول جمهور العلماء وقال الأوزاعي ليس عليه : القضاء واستدل بحديث الأعرابي فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم الكفارة له ولم يبين حكم القضاء ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، وقال : صلى الله عليه وسلم { من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر ، وليس على المظاهر سوى الكفارة } .

( ولنا ) أنه وجب عليه الصوم بشهود الشهر وقد انعدم الأداء منه فيلزمه القضاء كما لو كان معذورا وفوت ما لزمه من الأداء فيضمنه بمثل من عنده كما في حقوق العباد ، وإنما أراد بقوله فعليه ما على المظاهر بسبب الفطر ، وبه نقول أن وجوب القضاء ليس بسبب الفطر ، وإنما بين للأعرابي ما كان مشكلا عليه ، ووجوب القضاء غير مشكل فأما وجوب الكفارة قول جمهور العلماء ، وكان سعيد بن جبير يقول : لا كفارة على المفطر في رمضان ; لأن في آخر حديث الأعرابي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له { كلها أنت وعيالك } فانتسخ بهذا حكم الكفارة .

( ولنا ) قول النبي صلى الله عليه وسلم { من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر } وحديث { الأعرابي حين جاء إلى رسول الله ، وهو ينتف شعره ويقول : هلكت وأهلكت ، فقال : ماذا صنعت فقال : واقعت أهلي في رمضان نهارا متعمدا فقال : أعتق رقبة فضرب بيده على صفحة عنقه ، وقال : لا أملك إلا رقبتي هذه فقال : صلى الله عليه وسلم صم شهرين متتابعين فقال : وهل أتيت ما أتيت إلا من الصوم فقال : أطعم ستين مسكينا فقال : لا أجد فقال : اجلس فجلس فأتي بصدقات بني زريق فقال : خذ خمسة عشر صاعا فتصدق بها على المساكين فقال : على أهل بيت أحوج إليها مني ومن عيالي والله ما بين لابتي المدينة أحوج إليها مني ومن عيالي فقال صلى الله عليه وسلم : كلها أنت وعيالك } زاد في بعض الروايات { تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك } فإن ثبتت هذه الزيادة ظهر أنه كان مخصوصا ، وإن لم تثبت هذه الزيادة لا يتبين به انتساخ الكفارة ولكنه عذره في التأخير للعسرة ثم الكفارة مرتبة عند علمائنا والشافعي رحمهم الله تعالى وقال مالك رحمه الله تعالى ثبتت على سبيل التخيير لحديث { سعد بن أبي وقاص أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أفطرت في رمضان فقال : أعتق رقبة ، أو صم شهرين ، أو أطعم ستين مسكينا } .

( ولنا ) ما روينا من قوله صلى الله عليه وسلم { فعليه [ ص: 72 ] ما على المظاهر } وتبين بهذا أن المراد بالحديث الآخر بيان ما به تتأدى الكفارة في الجملة لا بيان التخيير ثم بعد العجز عن العتق كفارته بالصوم الأعلى قول الحسن البصري فإنه يقول عليه بدنة وجعل هذا قياس المجامع في الإحرام ، ولكنا نقول : لا مدخل للقياس في إثبات ما به تتأدى الكفارة إنما طريق معرفته النص وليس في شيء من النصوص ذكر البدنة في كفارة الفطر فكما لا مدخل للقياس فيما تتأدى به العبادات فكذا فيما يجب بالجناية فيها . والصوم مقدر بالشهرين بصفة التتابع إلا على قول ابن أبي ليلى فإنه يقول إن شاء تابع ، وإن شاء فرق بالقياس على القضاء وما روينا من الآثار حجة عليه وكان ربيعة الرازي يقول : الصوم مقدر باثني عشر يوما قال : لأن السنة اثني عشر شهرا فصوم كل يوم يقوم مقام اثني عشر يوما وبعض الزهاد يقول : الصوم مقدر بألف يوم فإن في رمضان ليلة القدر ، وهي خير من ألف شهر فإذا فوت صوم يوم منه فعليه أن يصوم ألف يوم ليقوم مقامه ولسنا نأخذ بشيء من هذا فإن الاعتماد على الآثار المشهورة كما روينا ، وهذه آثار تلقتها العلماء بالقبول ، والعمل بها وإثبات الكفارة بمثلها جائز ، وكما تجب الكفارة على الرجل تجب عليها إن طاوعته وللشافعي رحمه الله تعالى ثلاثة أقاويل قول مثل هذا وقول آخر أن الكفارة عليه دونها وقول آخر فصل بين البدني والمالي فقال : عليها الكفارة بالصوم ويتحمل الزوج عنها إذا كان ماليا واستدل بحديث الأعرابي فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكم الكفارة في جانبه لا في جانبها فلو لزمتها الكفارة لبين ذلك كما بين الحد في جانبها في حديث العسيف ثم سبب الكفارة المواقعة المعدمة للصوم والرجل هو المباشر لذلك دونها إذ هي محل المواقعة وليست بمباشرة للمواقعة فكان فعلها دون فعل الرجل كالجماع فيما دون الفرج بخلاف الحد فإن سببه الزنا وهي مباشرة للزنا فإن الله تعالى سماها زانية وعلى القول الآخر يقول : ما يتعلق بالمواقعة إذا كان بدنيا اشتركا فيه كالاغتسال ، وإذا كان ماليا تحمل الزوج عنها كالمهر وثمن ماء الاغتسال .

( ولنا ) قوله صلى الله عليه وسلم { من أفطر في رمضان } وكلمة من تعم الرجال والنساء وتبين بهذا أن السبب الموجب للكفارة فطر هو جناية كاملة ، وهذا السبب يتحقق في جانبها كما يتحقق في جانبه فنلزمها الكفارة كما يلزمها الحد بسبب الزنا وبه تبين أن تمكينها فعل كامل فإن مع النقصان لا يجب الحد وبيان النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة في جانبه بيان في جانبها ; لأن كفارتهما واحدة بخلاف حديث العسيف فإن الحد في جانبه كان [ ص: 73 ] هو الجلد وفي جانبها الرجم ولا معنى للتحمل ; لأن الكفارة إما أن تكون عقوبة ، أو عبادة وبسبب النكاح لا يجري التحمل في العبادات والعقوبات إنما ذلك في مؤن الزوجية ، وإن غلبها على نفسها فعليها القضاء دون الكفارة وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يفسد صومها والكلام في هذا نظير الكلام في الخاطئ وقد بيناه

التالي السابق


الخدمات العلمية