الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وأما إذا عين [ ص: 132 ] المكان بأن قال : لله علي أن أصوم شهرا بمكة أو أعتكف فصام أو اعتكف في غير ذلك المكان خرج عن موجب نذره عندنا ، وقال زفر : لا يخرج عن موجب نذره وكذلك لو قال : لله علي أن أصلي ركعتين بمكة فصلاهما هنا أجزأه عندنا خلافا لزفر والأصل عنده أنه لا يخرج عن موجب نذره إلا بالأداء في المكان الذي عينه أو في مكان هو أعلى من المكان الذي عينه وأفضل البقاع لأداء الصلاة فيها المسجد الحرام ثم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثم مسجد بيت المقدس على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { صلاة في مسجد بيت المقدس تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجدي هذا ، وصلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في مسجد بيت المقدس وصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة في مسجدي هذا } .

فإذا نذر أن يصلي في المسجد الحرام ركعتين لا يجوز أداؤهما إلا في ذلك الموضع عنده ، وإن نذر أن يصلي ركعتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أداؤهما إلا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في المسجد الحرام وإذا نذر الصلاة في مسجد بيت المقدس لا يجوز أداؤها إلا في أحد هذه المساجد الثلاثة ، ولا يجوز أداؤها في غير هذه المساجد في سائر البلاد وإذانذر الصلاة في المسجد الجامع لا يجوز أداؤها في مسجد المحلة وإذا نذر الصلاة في مسجد المحلة يجوز أداؤها في المسجد الجامع ، ولا يجوز أداؤها في بيته واعتمد في ذلك ما روي { أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت لرسول الله : صلى الله عليه وسلم إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي ركعتين في البيت فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وأدخلها الحطيم وقال : صلي ههنا فإن الحطيم من البيت } الحديث فهذا دليل اعتبار تعيينه المكان في النذر بالصلاة { وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني نذرت أن أصلي ركعتين في مسجد بيت المقدس فقال : من صلى في مسجدي هذا فكأنما صلى في بيت المقدس } فهو دليل على جواز الأداء في مكان هو أعلى من المكان الذي عينه ; ولأن المذهب عند أهل السنة والجماعة أن لبعض الأمكنة فضيلة على البعض وكذلك لبعض الأزمنة فإذا عين لنذره مكانا ثم أدى في مكان دون ذلك المكان في الفضيلة فإنما يقيم الناقص مقام الكامل مع قدرته على الأداء بصفة الكمال كما التزمه فلا يجوز ، وإن أدى في مكان هو أفضل من المكان الذي عينه فقد أدى أتم مما التزمه فيجزئه ذلك .

ألا ترى أنه لو نذر أن يصوم يوما فصام بالنية قبل الزوال لا يخرج عن موجب نذره ; لأن المؤدى [ ص: 133 ] أنقص مما التزمه وهذا بخلاف ما إذا أضاف النذر إلى وقت فاضل فمضى ذلك الوقت ; لأن هناك قد تحقق العجز عن الأداء بالصفة التي التزمه ، ولهذا لم يجوز زفر التعجيل على ذلك الوقت ; لأن العجز لا يتحقق قبل مجيء ذلك الوقت ، وحجتنا في ذلك أن صحة النذر باعتبار معنى القربة ، وذلك في الصلاة لا في المكان ; لأن الصلاة تعظيم لله تعالى بجميع البدن ، وفي هذا المعنى الأمكنة كلها سواء ، وإن كان الأداء في بعض الأمكنة أفضل فذلك لا يدل على أن الواجب لا يتأدى بدون ذلك كما في أداء المكتوبات ، ولا شك أن أداء الصلاة بالجماعة في المسجد أفضل وقد أمر شرعا بالأداء بهذه الصفة ومع ذلك إذا أداها في بيته وحده سقط عنه الواجب ، ولما بين النبي صلى الله عليه وسلم ثواب المتطوع بالصلاة في هذه المساجد ، قال : وأفضل ذلك كله صلاة الرجل في بيته في جوف الليل الآخر ثم عنده لو التزم صلاة في بعض هذه البقاع فصلاها في بيته لم يجز ، ولما { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل صلاة المرأة فقال : في أشد مكان من بيتها ظلمة } فعلى هذا ينبغي أنها إذا التزمت الصلاة في المسجد الحرام فصلت في أشد مكان من بيتها ظلمة أن تخرج عن موجب نذرها ، وعند زفر رحمه الله تعالى لا تخرج والذي يوضح ما قلنا أن الناذر إنما يلتزم بنذره ما هو من فعله لا ما ليس من فعله ، والمكان ليس من فعله فيكون هو بالنذر ملتزما للصلاة دون المكان ، وفي أي موضع صلى فقد أدى ما التزمه فيخرج عن موجب نذره ، وإن كان الأداء في الموضع الذي عينه أفضل

التالي السابق


الخدمات العلمية