الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب المهور ( قال : ) وعقد النكاح بغير تسمية المهر جائز ، ولها مهر مثلها من نسائها لا وكس ، ولا شطط إن دخل بها أو مات عنها ، وهذا مذهبنا أن مهر المثل يجب للمفوضة بنفس العقد ، وهو أحد قولي الشافعي ، وفي القول الآخر لا يجب المهر بنفس العقد ، وإنما يجب بالتراضي أو بقضاء القاضي إذا مات أحدهما قبل الدخول فلا مهر لها عنده ، ومشايخهم رحمهم الله تعالى مختلفون فيما إذا دخل بها ، وأكثرهم على أنه يجب المهر بالدخول ، ومنهم من يقول : لا يجب بالدخول أيضا ، واحتج بحديث عمر وعلي وابن زيد رضي الله عنهم أنهم قالوا : حسبها الميراث ، ولا مهر لها ، والمعنى فيه أنها جادت بحقها ، وهي من أهل الجود فيصح منها كما لو وهبت شيئا من مالها ; وهذا لأن المستوفى بالنكاح إما أن يكون في حكم المنفعة كما هو مذهبي أو في حكم العين كما هو مذهبكم فإن كان في حكم العين فبدله بمنزلة أرش الطرف يخلص حقا لها ، ويسقط بإسقاطها ، وإن كان بمنزلة المنفعة فبدل المنفعة لها ، والدليل عليه أنها تملك الإبراء عن المهر ، والشراء به شيئا ، وبهذا الطريق قال بعضهم : إنه ، وإن دخل بها لا يجب المهر ; لأنها كما رضيت بثبوت الملك عليها بغير عوض فقد رضيت بالاستيفاء من غير عوض ، وأكثرهم على أن فيما يجب بالاستيفاء معنى حق الشرع ، ألا ترى أن ما يجب بالاستيفاء من العقوبة ، وهو حد الزنا يكون خالص حق الشرع .

فكذلك المال الذي يجب عند الاستيفاء لا يسقط برضاها بالاستيفاء بغير عوض ، وإلى هذا أشار الله تعالى في قوله : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } ; ولأن المعاوضة في النكاح بين الزوجين حتى لا ينعقد النكاح إلا بذكرهما ، فأما المهر ليس بعوض أصلي ، ولكنه زائد وجب لها [ ص: 63 ] بإزاء احتباسها عنده بمنزلة النفقة ، ومثل هذا يحتمل التعجيل ، والتأجيل ، ولكن النكاح كما لا ينعقد إلا موجبا لهذا الملك عليها لا ينعقد إلا بشرط التعويض فتارة يتعجل العوض بالتسمية وتارة يتأخر إلى التأكد بالدخول أو الفرض بالتراضي أو بالقضاء ، ألا ترى أن ملك اليمين تارة يثبت بعوض واجب بنفس العقد ، وتارة بشرط التعويض ، وإن لم يكن واجبا بنفس السبب ، والدليل عليه أن مهر المثل لا ينتصف بالطلاق قبل الدخول ، وما كان واجبا بنفس العقد يتنصف كالمسمى ، وحجتنا في ذلك ما روي { أن سائلا سأل ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن هذا فجعل يردده شهرا ، ثم قال : أقول فيه بنفسي فإن يك صوابا فمن الله ورسوله ، وإن يك خطأ فمن ابن أم عبد ، وفي رواية فمني ، ومن الشيطان ، والله ورسوله منه بريئان أرى لها مهر مثل نسائها لا وكس ، ولا شطط فقام رجل يقال له معقل بن سنان أو معقل بن يسار وأبو الجراح صاحب الأشجعين رضوان الله عليهم فقال : نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأة منا يقال لها : بروع بنت واشق الأشجعية بمثل قضيتك هذه فسر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بذلك سرورا لم يسر قط مثله بعد إسلامه ; لما وافق قضاؤه قضاء رسول الله } صلى الله عليه وسلم ، والذي روي أن عليا رضي الله تعالى عنه رد هذا الحديث ، وقال : ماذا نصنع بقول أعرابي بوال على عقبيه إنما رده ; لمذهب تفرد به ، وهو أنه كان يحلف الراوي ، ولم ير هذا الرجل حتى يحلفه ، ولسنا نأخذ بذلك .

والمعنى فيه : أن النكاح عقد معاوضة بالمهر فإذا انعقد صحيحا كان موجبا للعوض كالبيع ، وكما لو زوج الأب ابنته بغير مهر ، وبيان الوصف قوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } يعني تبتغوا ملك النكاح على النساء بالمال ، وحرف الباء يصحب الأعواض فدل أن العوض الأصلي هو المهر ، والدليل عليه أنه يثبت لها حق المطالبة بالفرض ، والفرض عبارة عن التقدير ، والمطالبة بالتقدير تنبني على وجوب الأصل ، ففي كل موضع لم يجب الأصل بالعقد لا تثبت المطالبة بالتقدير ، كما في ملك اليمين بطريق الهبة فعرفنا أن أصل الوجوب بالعقد شرعا ، وإليه أشار الله تعالى في قوله : { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } أضاف إلى نفسه ، وبين خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح بغير مهر فذلك دليل على أنه في غيره لا ينعقد إلا موجبا للمهر ، وإليه أشار أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه بقوله لا نكاح إلا بمهر وشهود إلا ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والدليل عليه أنها تحبس نفسها ; لاستيفاء المهر ، ولا تحبس المبدل إلا ببدل واجب [ ص: 64 ] وإن بعد الدخول بها يجب .

ولا وجه لإنكاره ; لأنه منصوص عليه في القرآن ، والدخول تصرف في الملك فإذا ثبت الملك بغير عوض لا يجب العوض بالتصرف فيه بعد ذلك ، ولا معنى لما يقول : إن الملك يثبت بشرط التعويض ; لأن هذا العقد لا ينعقد إلا بمعاوضة المال ; إظهارا لخطر هذا الملك ، وهنا إظهار الخطر إنما يظهر إذا وجب البدل بنفس الملك ، فكما أن الملك لا يحتمل التأخر عن حالة العقد ، فكذلك وجوب البدل إلا في حق من قصر عنه حكم هذا الخطاب ، وهم أهل الذمة كما بينا .

والطلاق قبل الدخول مسقط ; لأنه رفع للعقد من الأصل فيكون مسقطا للعوض ، وسقوط العوض عند وجود المسقط لا يكون دليلا على أنه لم يكن واجبا بالعقد ، وتنصف المسمى بالطلاق حكم ثبت بالنص بخلاف القياس ، وكان المعنى فيه أن المسمى تأكد بالتسمية ، والعقد جميعا فلتأكده لا يسقط كله لا بالطلاق ، ولا بالموت ، والنفقة ضعيفة من كل وجه ; لأنها لا تجب بالتسمية ، ولا بنفس العقد وتسقط بالطلاق ، والموت جميعا ومهر المثل ضعيف من كل وجه ; لأنه غير مسمى في العقد ، وقوي من وجه ; لأنه واجب بنفس العقد ، فلقوته من وجه لا يسقط بالموت ، ولضعفه من وجه يسقط كله بالطلاق قبل الدخول إذا عرفنا هذا فنقول : نساؤها اللاتي يعتبر مهرها بمهورهن عشيرتها من قبل أبيها كأخواتها وعماتها ، وبنات عماتها عندنا ، وقال ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى : أمها وقوم أمها كالخالات ونحو ذلك ; لأن المهر قيمة بضع النساء فيعتبر فيه قرابتها من النساء ، ولكنا نقول : قيمة الشيء إنما تعرف بالرجوع إلى قيمة جنسه ، والإنسان من جنس قوم أبيه لا من جنس قوم أمه ، ألا ترى أن الأم قد تكون أمة ، والبنت تكون قرشية تبعا لأبيها فلهذا اعتبر عشيرتها من قبل أبيها ، ولا يعتبر مهرها بمهر أمها إلا أن تكون أمها من قوم أبيها بأن كانت بنت عمه ، فحينئذ يعتبر مهرها لا ; لأنها أمها بل ; لأنها بنت عم أبيها ، وإنما يعتبر من عشيرتها امرأة هي مثلها في الحسن ، والجمال والسن ، والمال والبكارة ; لأن المهور تختلف باختلاف هذه الأوصاف قال : صلى الله عليه وسلم { تنكح المرأة لمالها وجمالها } الحديث ، وكذلك يعتبر أن تكون تلك المرأة من بلدتها ، ولا يعتبر مهرها بمهر عشيرتها في بلدة أخرى ; لأن المهور تختلف باختلاف البلدان عادة .

وفي الحاصل مهر المثل قيمة البضع ، وقيمة الشيء إنما تعرف بالرجوع إلى نظيره بصفته قال : فإن فرض لها الزوج بعد العقد مهرا فرضيت به أو رافعته إلى القاضي ففرض لها مهرا فهو سواء ، ولها ذلك إن دخل بها أو مات عنها ، وإن طلقها قبل أن يدخل [ ص: 65 ] بها فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول : لها نصف المهر المفروض بعد العقد ، وهذا والمسمى في العقد سواء ثم رجع فقال : لها المتعة ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ; لأن الفرض بعد العقد يقدر بمهر المثل ، وقد بينا أن مهر المثل لا يتنصف بالطلاق قبل الدخول ; ولأن تنصف المسمى في العقد بالطلاق حكم ثبت بالنص بخلاف القياس ، والمفروض بعد العقد ليس في معناه ; لأنه ، وإن استند حكمه إلى وقت العقد لا يصير كالمسمى في العقد ، وعلى هذا لو تزوجها على مهر مسمى ثم زادها في المهر بعد العقد ففي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول : تتنصف الزيادة ، والأصل بالطلاق ; لأن الزيادة بعد العقد مثل المسمى في العقد قال الله تعالى : { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } أي : من فريضة بعد الفريضة ، وفي قوله الآخر : لا يتنصف بالطلاق إلا المسمى في العقد خاصة لقوله تعالى { فنصف ما فرضتم } أي : سميتم في العقد فأما الزيادة بعد العقد تسقط كلها بالطلاق ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية