الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب العنين

( قال : ) رضي الله عنه بلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يؤجل العنين سنة ، فإن وصل إلى امرأته فهي امرأته ، وإن لم يصل إليها فرق بينهما وجعلها تطليقة بائنة وجعل لها المهر كاملا وعليها العدة وبهذا أخذ علماؤنا ، بخلاف ما يقوله بعض الناس أنه لا خيار لامرأة العنين أصلا ; لحديث { امرأة رفاعة ، فإنها تزوجت بعبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنه فلم يصل إليها فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت : إن رفاعة طلقني فأبت طلاقي وتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير فلم أجد منه إلا مثل هدبة ثوبي ، تحكي ضعف حاله في باب النساء ، فلم يخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم } وجاءت امرأة إلى علي رضي الله عنه فذكرت أن زوجها لا يصل إليها فقال : ولا وقت السحر ، فقالت : ولا وقت السحر ، فقال : هلكت وأهلكت [ ص: 101 ] ما أنا بمفرق بينكما ، ولأنه عاجز معذور فيكون منظرا بإنظار الله تعالى ، ولكنا نستدل بحديث عمر رضي الله عنه وقد روي مثله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وعن علي رضي الله عنه أنه فرق بين العنين وبين امرأته وأوجب عليه المهر كاملا ، والصحيح من الحديث الذي رووا عن علي رضي الله عنه أن تلك المرأة قالت : لم يكن ذلك منه إلا مرة ، وفي هذا لا يفرق بينهما عندنا ، وامرأة رفاعة بما ذكرت حكت صغر متاعه لا العنة ، وفي مثل هذا عندنا لا تخير ثم هو معذور ، ولكنه في إمساكها ظالم ; لأنه ينسد عليها باب قضاء الشهوة بنكاحه ، ولا حاجة به إليها فوجب رفع الظلم عنها ، ولأن مقصودها بالعقد قد فات ; لأن مقصودها أن تستعف به وتحصل به صفة الإحصان لنفسها ، وفوات المقصود بالعقد أصلا يثبت للعاقد حق رفع العقد ، وهي تحتاج إلى تقرير مهرها أيضا ، وتمام ذلك بالاتفاق يحصل بالدخول ، فإذا انسد عليها الباب يثبت لها الخيار ، إلا أن العجز قد يكون لآفة في أصل الخلقة وقد يكون لعارض ، وإنما يتبين أحدهما عن الآخر بالمدة فلهذا يؤجل ، والأجل في هذا سنة كما اتفق الصحابة رضي الله عنهم الأسى ، وقد روي عن عبد الله بن نوفل رضي الله عنه قال : الأجل عشرة أشهر ، وإنما قدرنا بالسنة ; لأن التأجيل لإبلاء العذر والحول حسن في ذلك قال قائلهم : ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

ولأن العجز عن الوصول قد يكون بعلة الرطوبة ، وإنما يعالج ذلك في فصل الحر واليبوسة من السنة ، وقد يكون لغلبة الحرارة ، وإنما يعالج ذلك في فصل البرد ، وقد يكون لغلبة اليبوسة ، وإنما يعالج في فصل الرطوبة فقدرنا الأجل بحول حتى يعالج نفسه فيوافقه العلاج في فصل من فصول السنة فيبرأ ، فإذا مضت السنة ولم يصل إليها علم أن الآفة في أصل الخلقة ، ولهذا قالوا : يقدر بسنة شمسية أخذا بالاحتياط ، فربما تكون موافقة العلاج في الأيام التي يقع التفاوت فيها بين القمرية والشمسية ، وابتداء التأجيل من وقت الخصومة حتى إذا صبرت مدة ثم خاصمت ، فإن ادعى الزوج أنه قد وصل إليها سألها القاضي أبكر هي أم ثيب ، فإن قالت : ثيب فالقول قول الزوج ; لأن الظاهر من حال الفحل أنه إذا خلا بأنثى نزا عليها ، وفي الدعاوى القول قول من يشهد له الظاهر ، وإن كانت بكرا أراها القاضي النساء ، فإن البكارة لا يطلع عليها الرجال ، والمرأة الواحدة تكفي لذلك والمثنى أحوط ; لأن طمأنينة القلب إلى قول المثنى أكثر ، فإن قلن إنها بكر فالقول قولها ، وكذلك إن أقر الزوج أنه لم يصل إليها ويؤجله القاضي سنة فيأمره أن [ ص: 102 ] يعالج نفسه في هذه المدة ، هكذا قال علي رضي الله عنه أفيضوا عليه الدحج والعسل ليراجع نفسه ، فإن مضت السنة وادعى الزوج أنه وصل إليها فهو على ما بينا من البكارة والثيابة ، فإن أراها النساء فقلن : هي بكر خيرها القاضي ; لأن البكارة لا تبقى مع الوصول إليها ، فإذا خيرها فاختارت الزوج أو قامت من مجلسها أو أقامها أعوان القاضي أو قام القاضي قبل أن تختار شيئا بطل خيارها ; لأن هذا بمنزلة تخيير الزوج امرأته ، وذلك يتوقف بالمجلس فهذا مثله والتفريق كان لحقها ، فإذا رضيت بالإسقاط صريحا أو دلالة بتأخير الاختيار إلى أن قامت أو أقيمت يسقط حقها ، فلا تطالب بعد ذلك بشيء ، وإن اختارت الفرقة أمر القاضي الزوج بأن يطلقها ، فإن أبي فرق القاضي بينهما وكانت تطليقة بائنة عندنا ، وعند الشافعي يكون فسخا بمنزلة الرد بالعيب كما هو مذهبه ، فأما عندنا المستحق على الزوج أحد الشيئين إما الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان ، فإذا عجز عن أحدهما تعين الآخر .

فإذا امتنع منه ناب القاضي منابه في التسريح والتسريح طلاق ، وقد روينا عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه جعلها تطليقة بائنة ، وهذا لأن المقصود بالرجعي لا يحصل فالمقصود إزالة ظلم التعليق ، وفي الرجعي يستبد الزوج بالمراجعة مع أن حكم الرجعة مختص بعدة واجبة بعد حقيقة الدخول ، وذلك غير موجود هنا ، وعن أبي يوسف ومحمد رحمه الله تعالى في غير الأصول أنها كما اختارت نفسها تقع الفرقة بينهما اعتبارا بالمخيرة بتخيير الزوج أو بتخيير الشرع كالمعتقة ، ثم لها المهر كاملا عليه لوجود التسليم المستحق بالعقد منها ، وعليها العدة لما استوفت كمال المهر ، به قضى عمر وعلي رضي الله عنهم وقالا : ما ذنبهن إذا جاء العجز من قبلكم ، وكما لا يسقط حقها بترك المرافعة زمانا فكذلك لا يسقط حقها بتأخير الخصومة بعد مضي الأجل ، فإن ذلك للاختيار منها لا للرضا به ، والإنسان لا يتمكن من الخصومة في كل وقت خصوصا في هذه الحالة إلا أنه لا يحتسب على الزوج بما مضى من المدة قبل المرافعة ; لأن الأمر لم يكن مضيقا عليه قبل التأجيل ، وربما كان امتناعه من صحبتها لغرض له في ذلك سوى العجز ، ولكن بعد التأجيل يترك ذلك الغرض بما يلحقه من العار وضرر زوال ملكه ، فلهذا لا يحتسب بالمدة قبل التأجيل ويحتسب عليه بزمان حيضها وشهر رمضان ; لأن الصحابة رضي الله عنهم قدروا الأجل بسنة مع علمهم أنه لا يخلو عن ذلك عادة ، فإن مرض الزوج في المدة أو مرضت مرضا لا يستطاع جماعها فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى روايتان : في إحدى الروايتين إذا كان [ ص: 103 ] المرض أكثر من نصف شهر لا يحتسب بمدة المرض على الزوج ، وإن كان دون ذلك يحتسب عليه بالقياس على أيام شهر رمضان ، فإنه في النهار يمتنع عليه غشيانها ثم ذلك محسوب عليه فعرفنا أن نصف الشهر وما دونه عفو ، وفي الرواية الأخرى قال : إذا كانا صحيحين في شيء من السنة ، ولو في يوم واحد يحتسب عليه بزمان المرض ، وعلى قول محمد رحمه الله تعالى إن مرض أحدهما فيما دون الشهر يحتسب عليه بذلك ، وإن كان المرض شهرا لا يحتسب ويزاد في مدته بقدر مدة المرض ، وإن أحرمت بحجة الإسلام لا يحتسب على الزوج بتلك المدة ; لأنه لا يقدر أن يحللها .

ألا ترى أنها لو كانت محرمة حين خاصمت لم يؤجله القاضي حتى تفرغ من الحج ، ولو خاصمت والزوج مظاهر منها ، فإن كان يقدر على العتق أجله ، وإن كان عاجزا عن ذلك أمهله شهرين ; لأنه ممنوع عن غشيانها ما لم يكفر ، والعاجز عن العتق كفارته بالصوم شهران ، فإن ظاهر منها بعد التأجيل لم يلتفت القاضي إلى ذلك واحتسب عليه تلك المدة ; لأنه كان متمكنا من أن لا يظاهر منها ، وكذلك إن كان يصل إلى غيرها من النساء أو جواريه ، ولا يصل إليها خيرها القاضي ; لأن التخيير لرفع الضرر عنها ، ولا يحصل ذلك بوصوله إلى غيرها بل تزداد به غيظا ، ولو كان غشيها مرة واحدة ثم انقطع بعد ذلك ، فلا خيار لها ; لأن ما هو مقصودها من تأكد البدل أو ثبوت صفة الإحصان قد حصل لها بالمرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية