الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال : ) وإذا تزوج امرأة في عقدة وامرأتين في عقدة وثلاثا في عقدة ، ولا يعلم أيتهن الأولى ، فأما الواحدة فنكاحها صحيح بيقين ; لأن الصحيح من العقدين الأخيرين أحدهما ونكاح الواحدة صحيح تقدم أو تأخر ، والقول قول الزوج في الثلاث والثنتين أيتهن قال هي الأولى ; لأن نكاح أحد الفريقين صحيح وهو السابق والزوج هو الذي يعرف ذلك لأنه باشر العقود فيعرف السابق من المتأخر ولأنه صاحب ملك فإليه بيان محل ملكه ، ولأن حقوق النكاح تجب عليه فإليه بيان من يستوجب الحق عليه ، وأي الفريقين مات والزوج حي فقال هي الأولى ورثهن وأعطى مهورهن وفرق بينه وبين الأواخر ; لأن حق البيان الثابت له لا يبطل بموتهن [ ص: 163 ] فإن الموت منه للنكاح مقرر لإحكامه ، وإن كان دخل بهن كلهن ثم قال في صحته أو عند موته لأحد الفريقين هؤلاء الأول فهو الأول ويفرق بينه وبين الأواخر ولكل واحدة الأقل من مهر مثلها ، ومما سمى لها لدخوله بها بحكم نكاح فاسد ، ومراده بهذا الفصل أن دخوله بهن لا يؤثر في البيان إذا لم يعلم من دخل بها أولا ; لأن حال الفريقين في ذلك سواء ، وإن قال الزوج : لا أدري أيتهن الأولى حجب عنهن إلا عن الواحدة لأنه إنما يخلى بينه وبين من صح نكاحها منهن ، ونكاح الواحدة صحيح فيخلى بينه وبينها ، ولم يتيقن من صح نكاحه من الفريقين الآخرين فيكون محجوبا عنهن مخيرا على أن يبين الأول من الآخر ، فإن مات قبل أن يبين ففي المسألة بيان حكم الميراث والمهر والعدة .

أما بيان حكم المهر إن للواحدة ما سمى لها من المهر بكماله ; لأن نكاحها صحيح بيقين وللثلاث مهر ونصف بينهن وللثنتين مهر واحد بينهما على اختلاف الأصلين ، فإن أصل أبي يوسف رحمه الله تعالى في جنس هذه المسائل اعتبار الجملة والتخريج على ذلك فنقول : أكثر مالهن ثلاثة مهور بأن يكون السابق نكاح الثلاث ، وأقل مالهن مهران بأن يكون السابق نكاح المثنى ، فالتردد في مهر واحد يثبت في حال دون حال فيتنصف ، فكان لهن مهران ونصف ، ثم لا خصومة للثنتين في الزيادة على مهرين فيسلم ذلك للثلاث وهو نصف مهر يبقى مهران استوت فيه منازعة الفريقين فكان بينهما نصفين فيحصل للثلاث مهر ونصف وللثنتين مهر واحد ، وأصل محمد رحمه الله تعالى في ذلك اعتبار الأحوال في حق كل فريق على حدة فيقول : أما الثلاث فإن صح نكاحهن فلهن ثلاثة مهور ، وإن لم يصح فلا شيء لهن ، فلهن نصف ذلك وهو مهر ونصف ، وأما المثنى فإن صح نكاحهما فلهما مهران ، وإن لم يصح فلا شيء لهما ، فلهما نصف ذلك ونكاحهما يصح في حال دون حال فلهما مهر واحد ، وأما حكم الميراث فنقول : للواحدة سبعة أسهم من أربعة وعشرين من ميراث النساء ربعا كان أو ثمنا ; لأن نكاحها صحيح على كل حال ، فإن صح نكاحها مع الثلاث فلها ربع ميراث النساء ، وإن صح مع الثنتين فلها ثلث ، والربع بيقين وما زاد عليه إلى تمام الثلث يثبت في حال دون حال فيتنصف ، فنحتاج إلى حساب له ثلث وربع ، وذلك اثنا عشر ثم يتنصف السهم الزائد على الربع إلى تمام الثلث فيتكسر بالأنصاف فيضعف الحساب فيكون أربعة وعشرين .

فإن صح نكاحها مع الثلاث فلها ستة من أربعة وعشرين ، وإن صح نكاحها مع المثنى فلها ثمانية فالتردد في سهمين فيثبت أحدهما ويسقط الآخر فكان لها سبعة من أربعة [ ص: 164 ] وعشرين وما بقي وهو سبعة عشر سهما بين الفريقين الآخرين نصفين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وفي قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - للمثنى من ذلك ثمانية أسهم وللثلاث تسعة أسهم ، وجه قولهما أن السهم الزائد على ستة عشر لا منازعة فيه للمثنى ; لأنه إن صح نكاحهما فلهما ثلثا الميراث ستة عشر من أربعة وعشرين فيسلم ذلك السهم للثلاث ، وقد استوت منازعة الفريقين في ستة عشر فكان بينهما نصفين أو يعتبر حال كل فريق فنقول : إن صح نكاح الثلاث فلهن ثلاثة أرباع الميراث ثمانية عشر ، وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو تسعة ، وإن صح نكاح المثنى فلهما ثلثا الميراث ستة عشر ، وإن لم يصح فلا شيء لهما فلهما نصف ذلك ثمانية وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول : ما بقي من ميراث النساء بعد ما أخذت الواحدة نصيبها بمنزلة جميع ميراث النساء إن لو لم تكن الواحدة أصلا ، ولو لم تكن الواحدة أصلا كان جميع ميراث النساء بين الفريقين نصفين ، فكذلك ما بقي ، وهذا لأن علة الاستحقاق في حق الفريقين سواء ، فإن كل واحد منهما مستحق إذا كان سابقا ، محروم إذا كان مسبوقا ، وقولهما إن المثنى لا يدعيان السهم الواحد ، فإنما لا يدعيان ذلك باعتبار استحقاق الواحدة لذلك السهم ، فأما بدون استحقاقهما فهما يدعيان جميع الميراث وقد خرج ذلك السهم من أن يكون مستحقا للواحدة فكان دعواهما دعوى الثلاث في استحقاق ما فرغ من استحقاق الواحدة سواء ، فلهذا قسم بين الفريقين نصفين .

( قال : ) وعليهن عدة المتوفى عنهن أزواجهن احتياطا لما قلنا ، وإن كان قد دخل بهن كلهن ، ولا يعرف الأول والآخر فعلى الثلاث والثنتين عدة الوفاة والحيض جميعا على معنى أن كل واحدة تعتد أربعة أشهر وعشرا تستكمل في ذلك ثلاث حيض ; لأنه من وجه عليهن عدة الوفاة ، وهو ما إذا صح نكاحهن ، ومن وجه الحيض وهو ما إذا فسد نكاحهن فتجب العدة بالحيض لأجل الدخول فيجمع بينهما احتياطا ، فأما على الواحدة عدة المتوفى عنها زوجها لا حيض في ذلك ; لأن نكاحها صحيح بيقين ثم إن كان مهر مثل كل واحدة من الثلاث والثنتين أقل من المسمى فلها مهر مثلها ، ونصف الفضل إلى تمام المسمى ; لأن في وجوب الأقل وهو مهر المثل إما بالعقد أو بالدخول يقينا ما زاد عليه إلى تمام المسمى تستحقه كل واحدة إن صح نكاحها ، ونكاحها يصح في حال دون حال ، فلهذا كان لكل واحدة نصف ذلك ، فإن كان الزوج حيا فجامع امرأة منهن أو طلقها أو ظاهر منها كان هذا إقرارا منه بأنها ، ومن معها الأولى ; لأن البيان تارة يحصل [ ص: 165 ] بالتصريح وتارة بالدليل فإقدامه على الظهار والطلاق في إحداهن بيان منه أن نكاحها صحيح ; لأن ما باشره من التصرف مختص بالنكاح الصحيح ، وكذلك إن جامع ; لأن فعل المسلم محمول على الصحة والحل ما أمكن ، وإنما يكون وطؤه إياها حلالا إذا كان صح نكاحها ، فلهذا كان هذا بمنزلة البيان منه أن السابق عقدها .

( قال : ) وإن كانت إحدى الثلاث أم إحدى الثنتين ولم يدخل بشيء منهن فالجواب على ما تقدم أيضا ; لأن الصحيح نكاح أحد الفريقين وهو السابق منهما ، وفي هذا لا يفترق الحال بين أن يكون بينهما محرمية أو لم يكن .

( قال : ) ولو كان مع الثلاث أمة كان نكاح الأمة فاسدا على كل حال ; لأنه إن تقدم هذا العقد فنكاح الحرائر بهذا العقد صحيح ، ومتى صح نكاح الحرائر بطل نكاح الأمة المضمومة إليهن ، وإن تأخر نكاحهن فهو فاسد ، ولهذا كان نكاح الأمة فاسدا على كل حال .

( قال : ) وكذلك لو كانت إحدى الثنتين أمة فنكاحها فاسد بيقين لما قلنا ، فإن مات الزوج قبل أن يدخل بهن وقبل أن يبين الأولى منهن وإحدى الثلاث أمة وإحدى الثنتين أمة فنكاح الأمتين فاسد ونكاح الحرائر كلهن جائز ، أما فساد نكاح الأمتين لما قلنا ، وعند فساد نكاحهما الحرائر أربع فيجوز نكاحهن ، المتقدم والمتأخر في ذلك سواء ، وإن كانت إحدى الثلاث أمة والثنتان حرتان وقد تزوج الواحدة الحرة قبلهن يعلم ذلك فنكاح الأمة فاسد لعلمنا أنه تزوجها على حرة ، ونكاح الأمة على الحرة فاسد ، وللحرة المنفردة المهر وثلث ميراث النساء ; لأن نكاحها صحيح بيقين ، وإنما يزاحمها في الميراث امرأتان ، أما المنفردتان أو اللتان كانتا مع الأمة فلها ثلث ميراث النساء ، ولكل حرتين نصف ما بقي من الميراث لاستواء حال الفريقين في ذلك ، فإن كل فريق إن تقدم نكاحها استحق ذلك ، وإن تأخر لا ، ويكون للفريقين مهران بينهما سواء لاستواء حال الفريقين في استحقاق المهرين على ما قلنا .

( قال : ) وإن كانت إحدى الثنتين أمة والثلاث حرائر ، ولا يعلم أي النساء تزوج أولا فنكاح الأمة فاسد للتيقن بضمها إلى الحرة ، والميراث بين الحرائر الخمس على أربعة أسهم للثلاث من ذلك سهم ونصف وللمنفردتين ن سهمان ونصف ، وهذا في الحكم كرجل تزوج ثلاثا في عقدة ، وواحدة في عقدة ، وواحدة في عقدة ، ولا يدري أيتهن أول ، بل هي تلك المسألة بعينها ، ووجه التخريج أن الثلاث إن صح نكاحهن بأن تقدم أو كان بعد الواحدة من المنفردتين فلهن ثلاثة أرباع ميراث النساء ; لأن الصحيح معهن نكاح الواحدة من المنفردتين سابقا أو متأخرا [ ص: 166 ] وإن لم يصح فلا شيء لهن بأن كان نكاحهن بعد نكاح المنفردتين فلهن نصف ثلاثة أرباع الميراث ، وذلك سهم ونصف من أربعة وما بقي بين المنفردتين لاستواء حالهما ، ولأنهما يستحقان جميع الميراث في حال وهو أن يكون نكاحهما سابقا والربع في حال ، وهو أن يكون نكاح الثلاث سابقا فالربع لهما بيقين وهو سهم من أربعة ، وثلاثة تثبت في حال دون حال فيتنصف ، فلهذا كان لهما سهمان ونصف من أربعة ، وحالهما في استحقاق ذلك سواء فيكون بينهما نصفين وللثلاث مهر ونصف ; لأنه إن صح نكاحهن فلهن ثلاثة مهور ، وإن لم يصح فلا شيء لهن ، فلهن نصف نصف ذلك وهو مهر ونصف وللمنفردتي ن مهر ونصف ; لأن نكاح إحداهما صحيح بيقين تقدم أو تأخر ، فيتيقن لها بمهر ، والأخرى إن صح نكاحها فلها مهر ، وإن لم يصح فلا شيء لها فيتنصف مهرها ، وليست إحداهما بأولى من الأخرى بشيء ، فما اجتمع لهما وهو مهر ونصف بينهما نصفان .

التالي السابق


الخدمات العلمية