الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 19 ] باب الرجعة

( قال ) ، وإذا طلقها واحدة في الطهر أو في الحيض أو بعد الجماع فهو يملك الرجعة مادام في العدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم { طلق سودة رضي الله تعالى عنها بقوله اعتدي ثم راجعها } { وطلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها بالوطء } ويستوي إن طالت مدة العدة أو قصرت لأن النكاح بينهما باق ما بقيت العدة وقد روي أن علقمة رضي الله عنه طلق امرأته فارتفع حيضها سبعة عشر شهرا ثم ماتت فورثه ابن مسعود رضي الله عنه منها وقال إن الله تعالى حبس ميراثها عليك فإذا انقضت العدة قبل الرجعة فقد بطل حق الرجعة وبانت المرأة منه ، وهو خاطب من الخطاب يتزوجها برضاها إن اتفقا على ذلك .

وإذا أراد أن يراجعها قبل انقضاء العدة فأحسن ذلك أن لا يغشاها حتى يشهد شاهدين على رجعتها والإشهاد على الرجعة مستحب عندنا ، وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى شرط لا تصح الرجعة إلا به ، وهو قول مالك رحمه الله تعالى وهذا عجيب من مذهبه فإنه لا يجعل الإشهاد على النكاح شرطا ويجعل الإشهاد على الرجعة شرطا لظاهر قوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } والأمر على الوجوب ومذهبنا مروي عن ابن مسعود وعمار بن ياسر رضي الله عنهما ولأن الرجعة استدامة للنكاح والإشهاد ليس بشرط في استدامة النكاح وبيانه أن الله تعالى سمى الرجعة إمساكا ، وهو منع للمزيل من أن يعمل عمله بعد انقضاء المدة فلا يكون الإشهاد عليها شرطا كالفيء في الإيلاء والمراد بالآية الاستحباب ألا ترى أنه جمع بين الرجعة والفرقة وأمر بالإشهاد عليهما ثم الإشهاد على الفرقة مستحب لا واجب فكذلك على الرجعة ، وهو نظير قوله تعالى { وأشهدوا إذا تبايعتم } ثم البيع صحيح من غير إشهاد وليس في الرجعة عوض لا قليل ولا كثير لأنه استدامة للملك فلا يستدعي عوضا ولهذا لا يعتبر فيه رضاها ولا رضى المولى لأن الله تعالى جعل الزوج أحق بذلك بقوله تعالى { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } وإنما يكون أحق إذا استبد به والبعل هو الزوج ، وفي تسميته بعلا بعد الطلاق الرجعي دليل بقاء الزوجية بينهما فالمباعلة هي المجامعة ففيه إشارة إلى أن وطأها حلال له ، وهو قول علمائنا إن الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء ولكن لا يستحب له أن يطأها قبل الإشهاد على المراجعة لأنه يصير مراجعا لها من غير شهود .

وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحرم عليه [ ص: 20 ] وطؤها ما لم يراجعها ولهذا شرط الإشهاد على الرجعة لأنه سبب لاستباحة الوطء واستدل بقوله تعالى { إن أرادوا إصلاحا } والإصلاح يكون بعد تمكن الفساد ولم يتمكن الفساد هنا بزوال أصل الملك عرفنا أنه تمكن الفساد بحرمة الوطء ويجوز أن يثبت حرمة الوطء مع قيام أصل الملك كمن كاتب أمته يحرم عليه وطؤها وإن بقي الملك بعد الكتابة ولهذا لا يلزمه مهر جديد بالوطء كما في المكاتبة ولأن هذا طلاق واقع فيحرم الوطء كالواقع بقوله أنت بائن وتقريره أن الأقراء يحتسب بها من العدة بعد الطلاق ومع بقاء ملك النكاح مطلقا لا يحتسب بالأقراء من العدة لأن العدة لصيانة الماء وصون الماء بالنكاح أبلغ منه بالعدة ولأن العدة لتبين فراغ الرحم فيستحيل أن تكون هي مشغولة بما يبين فراغ رحمها ويكون الزوج مسلطا على شغل رحمها والدليل عليه أنها إذا جاءت بالولد إلى سنتين يجعل هذا من علوق قبل الطلاق ولو بقي الحل بينهما لكان يستند العلوق إلى أقرب الأوقات وهي ستة أشهر وحجتنا في ذلك أن الله تعالى سمى الرجعة إمساكا وذلك استدامة للملك فدل أن الملك باق على الإطلاق وملك النكاح ليس إلا ملك الحل فإنه لا يملك عينها ولا منافعها فبقاء ملك النكاح مطلقا يكون دليل بقاء حل الوطء إلا بعارض يحرم به الوطء في ملك اليمين كالحيض والظهار واختلاف الدين وبكونها مطلقة لا يحرم الوطء بملك اليمين لأنها لو كانت أمة فاشتراها بعد الطلاق كان له أن يطأها فكذلك لا يحرم الوطء في ملك النكاح والدليل على بقاء الملك مطلقا أنه يملك التصرفات كالظهار والإيلاء واللعان وأنهما يتوارثان وأنه يملك الاعتياض بالخلع وملك الاعتياض لا يكون إلا مع بقاء أصل الملك وأنه الرجعة يحل له وطؤها والرجعة ليست بسبب لحل الوطء مقصودا حتى لا يعتبر فيها المهر ولا رضاها والدليل عليه أن الطلاق بعد الطلاق واقع فلو كان حكم الطلاق زوال الملك به لم يقع الطلاق بعد الطلاق لأن المزال لا يزال وكما أن الطلاق الثاني واقع من غير أن يزول الملك به فكذلك الأول لأن الحكم الأصلي للطلاق رفع الحل عن المحل إذا تم ثلاثا .

فأما زوال الملك به معلق بانقضاء العدة قبل الرجعة والمعلق بالشرط عدم قبله وإنما سمى الله تعالى الرجعة ردا وإصلاحا لأنه يعيدها بالرجعة إلى الحالة الأولى حتى لا تبين بانقضاء العدة لا لأنه يعيدها إلى الملك وملك النكاح ليس نظير ملك اليمين فإن صفة الحل هناك تنفصل عن أصل الملك ابتداء وبقاء كالأخت من الرضاعة والأمة المجوسية وهنا صفة الحل تنفصل عن أصل [ ص: 21 ] الملك ابتداء وبقاء مع أن المكاتبة صارت أحق بنفسها بما التزمت من العوض وهنا الزوج أحق بها ووزان هذا من المكاتبة أن لو طلقها بعوض .

وكون الطلاق واقعا لا يكون دليل حرمة الوطء مع قيام الملك كما بعد الرجعة فإن الطلاق يبقى واقعا والوطء حلال وهذا لأن هذه الإزالة بطريق الإسقاط والمسقط يكون متلاشيا لا يتصور إعادته والاحتساب بالأقراء من العدة لأنه صار غير مريد لها بالطلاق وكمن وطئ أمته ثم أراد بيعها يستبرئها مع قيام الملك والحل واستناد العلوق إلى أبعد الأوقات للتحرز عن إثبات الرجعة بالشك فإنا لو أسندنا العلوق إلى أقرب الأوقات وجعلناه مراجعا لها بالشك ، وهو بناء على مذهبنا أن جماعه إياها في العدة رجعة منه وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون رجعة واعتبر الرجعة بأصل النكاح فكما لا يثبت أصل النكاح بالفعل فكذلك لا تثبت الرجعة ، وفي الحقيقة هذا بناء على ما تقدم فإن عنده الرجعة سبب لاستباحة الوطء ورفع الخلل الواقع في الملك فلا يكون إلا بالقول .

والجماع قبل الرجعة حرام فلا يكون سببا للحل وعندنا الرجعة استدامة للملك والفعل المختص به يكون أدل على استدامة الملك من القول ، وهو نظير الفيء في الإيلاء فإنه منع للمزيل من أن يعمل بعد انقضاء العدة وذلك يحصل بالجماع ونقول أكثر ما في الباب أن يثبت له أن الطلاق مزيل للملك ولكن المزيل متى ظهر وأعقب خيار الاستبقاء في مدة معلومة يكون مستبقيا للملك بالوطء كمن باع أمته على أنه بالخيار ثلاثة أيام ثم وطئها صار بالوطء مستبقيا للملك بل أولى لأن هناك يحتاج إلى فسخ السبب المزيل وهنا لا يحتاج إلى رفع الطلاق الواقع وكذلك لو قبلها بشهوة أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة لأن هذه الأفعال تختص بالملك الموجب للحل كالوطء فتكون مباشرته دليل استبقاء الملك ألا ترى في ثبوت حرمة المصاهرة جعلت هذه الأفعال بمنزلة الوطء فكذلك في حكم الرجعة والأحسن له أن يشهد شاهدين بعد ذلك هكذا قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه حين سئل عمن طلق امرأته ولم يعلمها حتى غشيها فقال طلقها لغير السنة وراجعها على غير السنة وليشهد على ذلك شاهدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية