الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : رجل قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا إن دخلت الدار ثم طلقها ثلاثا ثم عادت إليه بعد زوج آخر فدخلت الدار ، لم تطلق عندنا ، وقال زفر رحمه الله تعالى : تطلق ثلاثا ; لأن التعليق في الملك قد صح ، والشرط وجد في الملك فينزل الجزاء كما لو قال لعبده : إن دخلت الدار ، فأنت حر ثم باعه ثم اشتراه ثم دخل الدار ، وهذا ; لأن المعلق بالشرط ليس بطلاق على ما نبينه إن شاء الله تعالى

والذي أوقعه طلاق فكان غير المعلق بالشرط ، والمعلق بالشرط غير واصل إلى المحل ، فلا يعتبر ; لبقائه متعلقا قيام المحل .

وإنما يشترط كون المحل محلا عند وجود الشرط ; لأنه عند ذلك يصل إليه ، وهو موجود ، والدليل عليه أنه لو قال لها : إن دخلت الدار ، فأنت علي كظهر أمي ثم طلقها ثلاثا ثم عادت إليه بعد زوج آخر ، يكون مظاهرا منها ، إذا دخلت الدار ، ولو طلقها اثنتين في مسألة اليمين بالطلاق ثم عادت إليه بعد إصابة زوج آخر فدخلت الدار ، تطلق ثلاثا ، فإذا كان وقوع بعض الطلقات لا يمنع بقاء التعليق في الثلاث ، فكذلك في وقوع الكل ، وحجتنا ما علل به في الكتاب فقال : من قبل أنه لما طلقها ثلاثا ، فقد ذهب تطليقات ذلك الملك كله ، ومعنى هذا أن انعقاد هذه اليمين باعتبار التطليقات المملوكة فإن اليمين بالطلاق لا ينعقد إلا في الملك ، أو مضافا إلى الملك ولم توجد الإضافة هنا ، فكان انعقادها باعتبار التطليقات المملوكة ، وهي محصورة بالثلاث ، وقد أوقع ذلك كله ; والكل من كل شيء لا يتصور تعدده ، فعرفنا أنه لم يبق شيء من الجزاء المعلق [ ص: 94 ] بالشرط طلاقا كان ، أو غيره .

وكما لا ينعقد اليمين بدون الجزاء ، لا يبقى بدون الجزاء ألا ترى أنه لو قال لها : أنت طالق كل يوم ثلاثا فوقع عليها ثلاث تطليقات ثم تزوجها بعد زوج آخر ، لم يقع شيء وكذلك لو قال لها : أنت طالق تسعا كل سنة ثلاثا ، ثم تزوجها بعد زوج ، لم يقع في السنة الثانية شيء .

ولكن زفر رحمه الله تعالى يخالف في جميع هذا ويقول : ما يملك على امرأته من التطليقات غير محصور بعدد ، وإنما لا يقع إلا الثلاث ; لأن المحل لا يسع إلا ذلك حتى أن باعتبار تجدد العقد ، يقع عليها أكثر من ثلاث ، ولو قال لها : أنت طالق ألفا ، يقع عليها ثلاث ، ولو كان المملوك هو الثلاث ، لم يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما لو قال لها : طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثا ، لم يقع شيء .

والمعتمد أن نقول بوقوع الثلاث عليها خرجت من أن تكون محلا للطلاق ; لأن الطلاق مشروع ; لرفع الحل ، وقد ارتفع الحل بالتطليقات الثلاث ، وفوت محل الجزاء يبطل اليمين كفوت محل الشرط بأن قال : إن دخلت هذه الدار ثم جعل الدار حماما ، أو بستانا لا يبقى اليمين فلهذا مثله بخلاف ما بعد بيع العبد ; لأنه بصفة الرق كان محلا للعتق .

وبالبيع لم تفت تلك الصفة حتى لو فات العتق ، لم يبق اليمين وبخلاف ما لو طلقها اثنتين ; لأن المحل باق بعد اثنتين فإن المحلية باعتبار صفة الحل وهي قائمة بعد الثنتين ، فيبقى اليمين .

ثم قد استفاد من جنس ما كان انعقدت عليه اليمين فيسري إليه حكم اليمين كما لو هلك مال المضاربة إلا درهما منه ، يبقى عقد المضاربة على الكل حتى لو تصرف وربح يحصل جميع رأس المال بخلاف ما لو هلك الكل .

وهذا بخلاف اليمين في الظهار فإن المحلية هناك لا تنعدم بالتطليقات الثلاث ; لأن الحرمة بالظهار غير الحرمة بالطلاق فإن تلك حرمة إلى وجود التكفير ، وهذه حرمة إلى وجود ما يرفعها ، وهو الزوج إلا أنها لو دخلت الدار بعد الطلقات الثلاث إنما لا يصير مظاهرا ; لأنه لا حل بينهما في الحال ، والظهار تشبيه المحللة بالمحرمة ، وذلك لا يوجد إلا إذا دخلت الدار بعد التزوج بها .

وما قال أن المحل لا يعتبر في المعلق بالشرط ضعيف ; لأنه إيجاب ، وإن لم يكن واصلا إلى المحل .

ولا يكون كلامه إيجابا إلا باعتبار المحل ، فلا بد لبقائه معلقا بالشرط من بقاء المحل ، ولم يبق بعد التطليقات الثلاث ، وعلى هذا لو قال : أنت طالق كلما حضت فبانت بثلاث ثم عادت إليه بعد زوج آخر ، لم يقع عليها ، إن حاضت شيء إلا على قول زفر رحمه الله تعالى .

وكذلك إن آلى منها فبانت بالإيلاء ثم تزوجها فبانت أيضا حتى بانت بثلاث ثم تزوجها بعد زوج ، لم يقع عليها بهذا الإيلاء طلاق [ ص: 95 ] إلا على قول زفر رحمه الله تعالى .

ولكن إن قربها ، كفر عن يمينه ; لأن اليمين باقية فإن انعقادها وبقاءها لا يختص بمحل الحل ، فإذا قربها ، تحقق حنثه في اليمين ، فتلزمه الكفارة .

التالي السابق


الخدمات العلمية