الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : وإذا آلى الرجل من امرأته ، وبينه وبينها مسيرة أربعة أشهر أو أكثر أجزأه إن فاء بقلبه ولسانه ، والحاصل أن العاجز عن الجماع في المدة يكون فيؤه باللسان عندنا ، وذلك مروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى : الفيء باللسان ليس بشيء ; لأن المتعلق بالفيء حكمان : وجوب الكفارة ، وامتناع حكم الفرقة ثم الفيء باللسان لا يعتبر في حق أحد الحكمين وهو الكفارة ، فكذلك في الحكم الآخر ، ولكنا نقول الكفارة تجب بالحنث والحنث لا يتحقق في الفيء باللسان ، فأما وقوع الطلاق عند مضي المدة باعتبار معنى الإضرار والتعنت وذلك ينعدم في الفيء باللسان عند العجز عن الفيء بالجماع فكان الفيء بالجماع أصلا وباللسان بدلا عنه ; لأن الفيء عبارة عن الرجوع ، وإذا كان قادرا على الجماع فإنما قصد الإضرار والتعنت بمنع حقها في الجماع ففيؤه بالرجوع عن ذلك بأن يجامعها وإذا كان عاجزا عن الجماع لم يكن قصده الإضرار بمنع حقها في الجماع ; لأنه لا حق لها في الجماع في هذه الحالة ، وإنما قصد الإضرار بإيحاشها بلسانه ففيؤه بالرجوع عن ذلك بأن يرضيها بلسانه ; لأن التوبة بحسب الجناية ، ثم العجز عن الجماع تارة يكون ببعد المسافة وتارة بالمرض فإذا كان بينه وبينها أربعة أشهر أو أكثر [ ص: 29 ] فهو عاجز عن جماعها في المدة فيكون فيؤه بقلبه ولسانه وإن كان بينهما أقل من أربعة أشهر فهو قادر على الجماع فلا يكون فيؤه إلا بالجماع ; لأن حكم البدل إنما يعتبر عند العجز عن الأصل .

وكذلك إن كان مريضا حين آلى ففيؤه الرضا بالقلب واللسان إن تمت أربعة أشهر ، وهو مريض ; لأنه عاجز عن الجماع لمرضه وكذلك إن اتصل مرضه بالإيلاء فإن كان صحيحا حين آلى وبقي صحيحا بعد إيلائه مقدار ما يستطيع فيه أن يجامعها ثم مرض بعد ذلك لم يكن فيؤه إلا بالجماع ، وقال زفر فيؤه باللسان لتحقق عجزه عن الجماع والمعتبر عنده آخر المدة كما لو كان واجدا للماء في أول الوقت فلم يتوضأ حتى عدم الماء جاز له التيمم ولكنا نقول لما تمكن من جماعها فقد تحقق منه الإضرار ، والتعنت بمنع حقها في الجماع فلا يكون رجوعه إلا بإيفاء حقها في الجماع فأما إذا كان مريضا حين آلى ثم صح قبل تمام أربعة أشهر لم يكن فيؤه إلا بالجماع ويستوي إن كان فاء إليها في مرضه أو لم يفئ ; لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فإن تمام المقصود بمضي المدة ، وسقط اعتبار حكم البدل بهذه القدرة كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة ، وكذلك إن كانت المرأة مريضة أو صغيرة لا تجامع ففيؤه الرضا باللسان وذكر في اختلاف زفر ويعقوب - رحمهما الله تعالى - : أن الزوج إذا كان مريضا حين آلى ثم مرضت المرأة ثم صح الزوج قبل مضي أربعة أشهر ففيؤه الرضا باللسان عند زفر رحمه الله تعالى ; لأن تأثير مرضها في المنع من الجماع كتأثير مرضه ، وعلى قول أبي يوسف : لا يكون فيؤه إلا بالجماع ; لأن العجز الذي كان لأجله فيؤه الرضا باللسان قد زال قبل تمام المدة فكان ذلك كالمعلوم أصلا ، ولو كانا محرمين بالحج أو أحدهما فآلى وقت أداء الحج أربعة أشهر أو أكثر لم يكن فيؤه إلا بالجماع في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - ; لأنه متمكن من ذلك وإن كان حراما ، وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى : فيؤه الرضا باللسان ; لأنه ممنوع من جماعها في المدة شرعا فهو كما لو كان ممنوعا حسا ببعد المسافة ، ألا ترى أنه لو خلى بامرأته وأحدهما محرم بالحج لم تصح الخلوة كما لو كان بينهما ثالث ومتى وطئها بعد الفيء باللسان فعليه كفارة اليمين ; لأن الفيء باللسان يمنع وقوع الطلاق ، ولا يرتفع اليمين فيتحقق شرط الحنث متى جامعها .

التالي السابق


الخدمات العلمية