الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا تزوج أمة رجل فولدت ثم اشتراها أو ملكها بسبب آخر صارت أم ولد له عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا تصير أم ولد له وفي المغرور إذا ملك الجارية له وجهان احتج بقوله صلى الله عليه وسلم { أيما أمة ولدت من سيدها فشرط لثبوت حق العتق لها أن تلد من سيدها وهذه ولدت من زوجها لا من سيدها } والمعنى فيه أنها علقت برقيق فلا تكون أم ولد بذلك كما لو استولدها بالزنا ثم ملكها ، وتأثيره أن ثبوت حق أمية الولد إذا علقت من سيدها باعتبار أن الولد يعلق حر الأصل من الماءين وماؤها جزء منها فثبوت الحرية لذلك الجزء يوجب ثبوت الحرية لجميعها . إلا أن اتصال الولد بها بعرض الانفصال وجعل الولد كشخص على حدة في بعض الأحكام ، فلوجود حقيقة الاتصال أثبتنا حق العتق لما بقي منها ولكونه بعرض الانفصال وبمنزلة شخص على حدة في بعض الأحكام لا تثبت حقيقة الحرية لما بقي منها في الحال ، وهذا المعنى لا يوجد إذا علقت برقيق ، وحقها في أمية الولد ليس في معنى حق الولد في الحرية ; لأن الولد إنما يعتق عليه باعتبار الجزئية ولهذا لو كان الاستيلاد بالزنا فملكه يعتق عليه ولا يوجد ذلك المعنى في حق الأم ، وعلى هذا الطريق يقولون في المغرور أن الجارية تصير أم ولد له إذا ملكها ; لأنها علقت بحر والطريق الآخر أن موجب الاستيلاد ثبوت حق العتق لها فإذا حصل قبل الملك لا يكون موجبا في الملك الذي لا يحدث بعده كالتدبير وحقيقة العتق وعلى هذا الطريق في المغرور يقولون لا تصير أم ولد له .

( وحجتنا ) في ذلك أنه ملكها وله منها ولد ثابت النسب فتكون أم ولده كما استولدها في ملكه وتأثيره أن حق العتق ثبت لها بالاستيلاد كما قال صلى الله عليه وسلم { أعتقها ولدها } والملك في المحل شرط فإذا تقرر السبب قبل الملك توقف على وجود شرطه وهو الملك . ألا ترى أن في حرية الولد لما تقرر السبب قبل الملك وهو النسب توقف على وجود شرطه وهو الملك حتى إذا ملكه يعتق فكذلك في الأم ; لأن حقها تابع الولد بخلاف التدبير والعتق قبل الملك فإن ذلك [ ص: 155 ] لغو شرعا فلا يظهر حكمه بعد الملك وهذا السبب متقرر شرعا . توضيحه أن حق العتق لأم الولد باعتبار أنها منسوبة إليه بواسطة الولد فإن للجزئية تأثيرا في النسبة والولد جزء منها فتصير هي منسوبة له باعتبار هذه الواسطة حتى يقال : أم ولده ، وهذا متقرر حتى يثبت نسب الولد بنكاح كان أو بملك ولا ، معتبر بما قاله الخصم من حرية الماء الذي هو في حكم الجزء ولأنه لو أعتق ما في بطن جاريته لم يثبت لها حق العتق ولا حقيقة العتق فلو كان ثبوت حق العتق لها باعتبار الاتصال والجزئية لثبت هنا ; لأن الثابت لها باعتبار الجزئية من جنس ما هو ثابت للجزء والثابت للولد حرية الأصل على وجه لا يعقب الولاء والثابت لها حق العتق على وجه يثبت به الولاء ولا مشابهة بينهما فعرفنا أن الطريق فيه ما قلنا وهو ثبوت نسب الولد ويستوي إن كان النكاح بينهما ظاهرا أو أقر بذلك وأنكر مولاها ثم ملك ; لأن المقر يعامل في حق نفسه كأن ما أقر به حق .

فأما إذا استولدها بالزنا وأقر بذلك ثم ملكها في القياس تصير أم ولد له وهو قول زفر رحمه الله تعالى ; لأنه أقر لها بحق العتق وللولد بحقيقة العتق ثم في حقيقة العتق للولد لا فرق بين ما إذا أقر بالنكاح أو الزنا فكذلك في حق العتق لها ولكن استحسن علماؤنا رحمهم الله تعالى فقالوا إنها لا تصير أم ولد له ; لأن الموجب لحق العتق لها صيرورتها منسوبة إليه بواسطة الولد وهذا المعنى لا يوجد هنا ; لأن نسب الولد بالزنا وهي لا تصير منسوبة إليه بدون هذه الواسطة فلهذا لا تكون أم ولد له فأما الولد يعتق عليه إذا ملكه ; لأنه وإن انعدم هذا المعنى في حق الولد فقد وجد معنى آخر وهو الجزئية ; لأن الجزئية لا تنعدم حقيقة بسبب أن الولد بالزنا ، والإنسان كما لا يستديم الملك على نفسه لا يستديم الملك على جزئه فلهذا يعتق الولد إذا ملكه . يقرره أن حال الأم في حق أمية الولد كحال الأخ فإنه ينسبه إلى أخيه بواسطة الأب ثم من ملك أخاه من الزنا لا يعتق الأخ ; لأن الواسطة قد انعدمت حين لم يثبت النسب بالزنا فكذلك الواسطة هنا قد انعدمت حين لم يثبت نسب ولدها بالزنا فلهذا لا تصير أم ولد له .

ولو زوج أمته عبده فولدت فادعاه المولى يعتق الولد وتكون أمه بمنزلة أم الولد له وهنا نسب الولد غير ثابت من المولى ومع ذلك الجارية تكون أم ولد له وإنما كان ذلك لاحتمال أن يكون الولد ثابت النسب من المولى بعلوق سبق النكاح ، والشبهة بعد النكاح ، إلا أن هذا الاحتمال غير معتبر في حق النسب لثبوت نسبه من الزوج واستغنائه به عن النسب فبقي معتبرا في حق الأم ; لأنها محتاجة إلى [ ص: 156 ] حق أمية الولد بخلاف ما إذا أقر بالاستيلاد بالزنا ; لأنه لا احتمال للنسب هناك مع تصريحه بالزنا وإذا اشترى أمة لها ثلاثة أولاد فادعى أحدهم فإن كانوا ولدوا في بطن واحد ثبت نسبهم جميعا منه ; لأنهم في حكم النسب كشخص واحد فإنهم خلقوا من ماء واحد وإن كانوا في بطون مختلفة لم يثبت إلا نسب الذي ادعاه والباقيان رقيقان ويبيعهما إن شاء ; لأنهم ولدوا في غير ملكه فتكون دعوته فيهم دعوة تحرير ودعوة التحرير بمنزلة الإعتاق ولو أعتق أحدهم لم يعتق إلا ذاك فكذلك إذا ادعى نسب أحدهم .

ولو ولدوا في ملكه بأن ولدت أمة رجل ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فإن ادعى الأصغر فإنه يثبت نسب الأصغر منه وله أن يبيع الآخرين بالاتفاق وإن ادعى الأكبر ثبت نسب الأكبر منه والأوسط والأصغر بمنزلة الأم ليس له أن يبيعهما ولا يثبت نسبهما منه إلا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول ثبت نسبهما منه ; لأنه ثبت لها حق أمية الولد من حين علقت بالأكبر ونسب ولد أم الولد ثابت من المولى ما لم ينفه ، ولا يجوز أن يقال تخصيص الأكبر بالدعوة دليل النفي في حق الآخرين ; لأن هذا مفهوم والمفهوم ليس بحجة عندنا ولكنا نقول يحق عليه شرعا الإقرار بنسب ولد وهو منه ولما خص الأكبر بالدعوة بعد ما لزمه هذا شرعا كان هذا نفيا للآخرين ، وهذا نظير ما قيل السكوت لا يكون حجة ولكن السكوت بعد لزوم البيان يجعل دليل النفي فهذا مثله وكما أن دليل الدعوة كالتصريح فدليل النفي كالتصريح به ، ولو نفى الآخرين لم يثبت نسبهما وكانا عنده بمنزلة أمهما

التالي السابق


الخدمات العلمية