الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا حلف أن يهدي مالا يملكه لا يلزمه شيء لقوله عليه الصلاة والسلام { : لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم } ، ومراده من هذا اللفظ أن يقول : إن فعلت كذا فلله علي أن أهدي هذه الشاة ، وهي مملوكة لغيره ، فأما إذا قال : والله لأهدين هذه الشاة ينعقد يمينه ; لأن محل اليمين خبر فيه رجاء الصدق ، وذلك بكون الفعل ممكنا ، ومحل النذر فعل وهو قربة ، وإهداء شاة الغير ليس بقربة ، إلا أن يريد اليمين فحينئذ ينعقد ; لأن في النذر معنى اليمين حتى ذكر الطحطاوي أنه لو أضاف النذر إلى ما هو معصية وعنى به اليمين بأن قال : لله تعالى علي أن أقتل فلانا ، كان يمينا ، ويلزمه الكفارة بالحنث ; لقوله { : النذر يمين وكفارته كفارة اليمين } ، وإذا قال : لله علي أن أنحر ولدي ، أو أذبح ولدي لم يلزمه شيء في القياس ، وهو قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى وفي الاستحسان يلزمه ذبح شاة ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لكنه إن ذكر بلفظ الهدي ، فذلك يختص بالحرم ، وفي سائر الألفاظ إما أن يذبحها في الحرم أو في أيام النحر . وجه القياس أنه نذر بإراقة دم محقون فلا يلزمه شيء ، كما لو قال : أبي أو أمي ; وهذا لأن الفعل الذي سماه معصية ولا نذر في معصية الله تعالى لأنه لو نذر ذبح ما يملك ذبحه ، ولكن لا يحل ذبحه كالحمار والبغل لا يلزمه شيء ، ولو نذر ذبح ما يحل ذبحه ، ولكن لا يملك ذبحه كشاة الغير لا يلزمه شيء ، فإذا نذر ذبح ما لا يحل ذبحه ولا يملك ذبحه أولى أن لا يلزمه شيء ، وجه الاستحسان ما روي : أن رجلا سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه المسألة فقال : أرى عليك مائة بدنة ، ثم قال : ائت ذلك الشيخ فاسأله ، وأشار إلى مسروق فسأله فقال : أرى عليك شاة فأخبر بذلك ابن عباس رضي الله عنهما ، فقال : وأنا أرى عليك ذلك ، وفي رواية عن ابن عباس أنه أوجب فيه كفارة اليمين ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أوجب فيه بدنة أو مائة بدنة .

وسألت امرأة عبد الله بن عمر فقالت إني جعلت ولدي نحيرا . فقال : أمر الله بالوفاء بالنذر . فقالت : أتأمرني بقتل ولدي ، فقال : نهى الله عن قتل الولد ، وإن عبد المطلب نذر إن تم له عشرة بنين أن يذبح عاشرهم ، فتم له ذلك بعبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقرع بينه وبين عشر من [ ص: 140 ] الإبل ، فخرجت القرعة عليه ، فما زال يزيد عشرا عشرا ، والقرعة تخرج عليه حتى بلغت الإبل مائة ، فخرجت القرعة عليها ثلاث مرات ، فنحر مائة من الإبل ، وأرى عليك مائة من الإبل ، والصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على صحة النذر ، واختلفوا فيما يخرج به ، فاستدللنا بإجماعهم على صحة النذر ; لأن من الإجماع أن يشتهر قول بعض الكبار منهم ، ولا يظهر خلاف ذلك ، ولا شك أن رجوع ابن عباس إلى قول مسروق قد اشتهر ، ولم يظهر من أحد خلاف ذلك ، والذي روي عن مروان أخطأ الفتيا لا نذر في معصية الله شاذ لا يلتفت إليه ، فإن قول مروان لا يعارض قول الصحابة ، مع أن الإجماع لا يعتبر فيما يكون مخالفا للقياس ، ولكن قول الواحد من فقهائهم فيما يخالف القياس حجة ، يترك به القياس ; لأنه لا وجه لحمل قوله إلا على السماع ممن ينزل عليه الوحي ، ثم أخذنا بفتوى ابن عباس ومسروق في إيجاب الشاة لها ; لأن هذا القدر متفق عليه ، فإن من أوجب بدنة أو أكثر فقد أوجب الزيادة ; أو لأن من أوجب الشاة فإنما أوجبها استدلالا بقصة الخليل صلوات الله عليه ومن أوجب مائة من الإبل ، فإنما أوجبها استدلالا بفعل عبد المطلب ، والأخذ بفعل الخليل صلوات الله عليه أولى من الأخذ بفعل عبد المطلب ، وهو الاستدلال الفقهي في المسألة ، فإن الشاة محل لوجوب ذبحها بإيجاب ذبح مضاف إلى الولد ، فكان إضافة النذر بالذبح إلى الولد بهذا الطريق كالإضافة إلى الشاة ، فيكون ملزمة .

وبيانه أن الخليل صلوات الله وسلامه عليه أمر بذبح الولد كما أخبر به ولده فقال الله تعالى مخبرا عنه { : إني أرى في المنام أني أذبحك } أي أمرت بذبحك ، بدليل أن ابنه قال في الجواب { : يا أبت افعل ما تؤمر } ; ولأنهما اعتقدا الأمر بذبح الولد حيث اشتغلا به فأقرا عليه ، وتقرير الرسل على الخطأ لا يجوز ، خصوصا فيما لا يحل العمل فيه بغالب الرأي من إراقة دم نبي ، ثم وجب عليه بذلك الأمر ذبح الشاة ; لأن الله تعالى قال { : وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . } أي حققت ، وإنما حقق ذبح الشاة ، فلا يجوز أن يقول : إنما سماه مصدقا رؤياه قبل ذبح الشاة ; لأن في الآية تقديما وتأخيرا ، معناه وفديناه بذبح عظيم ، وناديناه أن يا إبراهيم وهذا ; لأن قبل ذبح الشاة إنما أتى بمقدمات ذبح الولد من تله للجبين وإمراره السكين على حلقه ، وبه لم يحصل الامتثال ; لأنه ليس بذبح ; ولأنه لو حصل الامتثال به لم تكن الشاة فداء ، ولا يجوز أن يقول : وجوب الشاة بأمر آخر ; لأن إثبات أمر آخر بالرأي غير ممكن ; ولأنه حينئذ لا يكون فداء . والله تعالى سمى الشاة فداء [ ص: 141 ] على أنه دفع مكروه الذبح عن الولد بالشاة ، وهذا إذا كان وجوب الشاة بذلك الأمر ، ولا يجوز أن يقال : وجب عليه ذبح الولد بدليل أنه اشتغل بمقدماته ، وإنما كانت الشاة فداء عن ولد وجب ذبحه ، وهذا لا يوجد في النذر ; وهذا لأنه ما أوجب عليه ذبح الولد حتى جعلت الشاة فداء ، إذ لو كان واجبا لما تأدى بالفداء مع وجود الأصل في يده ; ولأن الولد كان معصوما عن الذبح ، وقد ظهرت العصمة حسا على ما روي أن الشفرة كانت تنبو وتنفل ولا تقطع ، وبين كونه معصوما عن الذبح ، وبين كونه واجب الذبح منافاة فعرفنا أنه ما وجب ذبح الولد بل أضيف الإيجاب إليه على أن ينحل الوجوب بالشاة .

وفائدة هذه الإضافة الابتلاء في حق الخليل عليه السلام بالاستسلام وإظهار الطاعة فيما لا يضطلع فيه أحد من المخلوقين ، وللولد بالانقياد والصبر على مجاهدة بذل الروح إلى مكاشفة الحال ; وليكون له ثواب أن يكون قربانا لله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { : أنا ابن الذبيحين } وما ذبحا بل أضيف إليهما ، ثم فديا بالقرابين ، ولا يقال : قد وجب ذبح الولد ، ثم تحول وجوب ذبح الولد إلى الشاة بانتساخ المحلية فتكون الشاة واجبة بذلك الأمر كالدين يحال من ذمة إلى ذمة ، فيفرغ المحل الأول منه بعد الوجوب فيه ، فيكون واجبا في المحل الثاني بذلك السبب ; وهذا لأن الوجوب في المحل لا يكون إلا بعد صلاحية المحل له ، وبعد ذلك وإن تحول إلى محل آخر يبقى المحل الأول صالحا لمثله كالدين إذا حول من ذمة إلى ذمة ، ولم يبق الولد محلا صالحا لذبح هو قربان ، فعرفنا أنه لم يكن محلا ، وأن الوجوب بحكم ذلك الإيجاب حل بالشاة من حيث إنه يقدم على الولد في قبول حكم الوجوب ، ولهذا سمي فداء . نظيره من الحياة أن يرمي إلى إنسان فيفديه غيره بنفسه ، من حيث إنه يتقدم عليه لينفذ السهم فيه ، لا أن يتحول إليه بعد ما وصل إلى المحل ، ويقول لغيره : فدتك نفس عن المكاره . والمراد هذا ومن الشرعيات الخف مقدم على الرجل في قبول حكم الحدث ، لا أن يتحول إلى الخف ما حل بالرجل من الحدث ، ولو سلمنا أنه وجب ذبح الولد فإنما كان ذلك لغيره ، وهو الفداء لا لعينه ، ولهذا صار محققا رؤياه بالفداء وفي مثل هذا إيجاب الأصل في حال العجز عنه يكون إيجابا للفداء ، كالشيخ الفاني إذا نذر الصوم يلزمه الفداء ; لأن وجوب الصوم عليه شرعا لغيره وهو الفداء لا لعينه ، فإنه عاجز عنه وذكر الطبري في تفسيره أن الخليل عليه السلام كان نذر الذبح لأول ولد يولد له ، ثم نسي ذلك فذكر في المنام ، فإن ثبت هذا فهو نص ; لأن شريعة من قبلنا تلزمنا ما لم يظهر ناسخه [ ص: 142 ] خصوصا شريعة الخليل صلوات الله عليه قال الله تعالى : ف { اتبع ملة إبراهيم حنيفا } .

التالي السابق


الخدمات العلمية