الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 52 ] باب ما أصيب في الغنيمة مما كان المشركون أصابوه من مال المسلم

( قال ) رضي الله عنه : بني مسائل الباب على أصل مختلف فيه وهو أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر إذا أحرزوه بدارهم عندنا ولا يملكونها عند الشافعي لقوله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } والتملك بالقهر أقوى جهات السبيل ولما أغار عتيبة بن حصن على سرح المدينة وفيه ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء وامرأة من الأنصار قالت الأنصارية : فلما جن الليل قصدت الفرار من أيديهم فما وضعت يدي على بعير الأرغي حتى وضعت يدي على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء فركنت إلي فركبتها وقلت : لئن نجاني الله تعالى عليها لأنحرنها ولآكلن من سنامها وكبدها فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصصت عليه هذه القصة قال { بئسما جازيتها لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم } وفي رواية { رديها فإنها ناقة من إبلنا وارجعي إلى أهلك على اسم الله } والمعنى فيه أن هذا عدوان محض لأنه حرام ليس فيه شبهة الإباحة فلا يكون سببا للملك كاستيلاء المسلم على مال المسلم وهذا لأن الملك حكم مشروع مرغوب فيه فيستدعي سببا مشروعا والعدوان المحض ضد المشروع ولأن المعصوم بالإسلام لا يملك بالقهر كالرقاب فإن الشرع أثبت العصمة بسبب واحد في المال والرقاب قال صلى الله عليه وسلم { فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم } فذلك دليل المساواة بينهما في المنع من التملك بالقهر وهذا لأن الاستيلاء سبب الملك في محل مباح لا في محل معصوم حتى لا يملك مال المستأمن بالقهر بخلاف مال الحربي الذي لا أمان له ولا يملك صيد الحرم بالاستيلاء بخلاف صيد الحل والسبب لا يعمل إلا في محله فإذا صادف الاستيلاء محلا معصوما لم يكن موجبا للملك وبه فارق سائر أسباب الملك من البيع والهبة لأنه موجب للملك في محل معصوم وهو مملوك .

( وحجتنا ) في ذلك قوله تعالى { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم } الآية فإن الله تعالى سمى المهاجرين فقراء والفقير حقيقة من لا ملك له ولو لم يملك الكفار أموالهم بالاستيلاء لما سماهم فقراء ولما قال علي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة :

ألا تنزل دارك قال { : وهل ترك لنا عقيل من ربع } وقد كان له دار بمكة ورثها من خديجة رضي الله عنها فاستولى عليها عقيل بعد هجرته والمعني فيه أن الاستيلاء سبب يملك به المسلم مال الكافر [ ص: 53 ] فيملك به الكافر مال المسلم كالبيع والهبة وتأثيره أن نفس الأخذ سبب لملك المال إذا تم بالإحراز وبيننا وبينهم مساواة في أسباب إصابة الدنيا بل حظهم أوفر من حظنا لأن الدنيا لهم ولأنه لا مقصود لهم في هذا الأخذ سوى اكتساب المال ونحن لا نقصد بالأخذ اكتساب المال ثم جعل هذا الأخذ سببا للملك في حق المسلم بدون القصد فلأن يكون سببا للملك في حقهم مع وجود القصد أولى وإنما يفارقوننا فيما يكون طريقه طريق الجزاء لأن الجزاء بوفاق العمل وذلك في تملك رقاب الأحرار لأن الآدمي في الأصل خلق مالكا لا مملوكا فصفة المملوكية فيه تكون بواسطة إبطال صفة المالكية وذلك مشروع في حقهم بطريق الجزاء فإنهم لما أنكروا وحدانية الله تعالى جازاهم الله تعالى على ذلك بأن جعلهم عبيد عبيده ولا يوجد ذلك في حق المسلمين ولا إشكال أن إبطال صفة الحرية يكون بطريق الجزاء والعقوبة .

ألا ترى أن إثبات صفة الحرية في المملوك مشروع بطريق الجزاء والتقرب فإبطال صفة الحرية يكون الجزاء والعقوبة وقد تعذر إثبات هذه الواسطة في رقاب الأحرار المسلمين أو من ثبت له حق العتق منهم حتى أن في حق العبيد لما كان الملك يثبت بدون هذه الواسطة قلنا بأنهم يملكون عبيدنا بالأخذ ; والمفارقة بيننا وبينهم في الحل والحرمة لا يمنع المساواة في حكم الملك عند تقرر سببه ألا ترى أن استكساب المسلم عبده الكافر سبب مباح للملك واستكساب الكافر عبده المسلم حرام ومع ذلك كان موجبا للملك لتقرر السبب مع أن الفعل الذي هو عدوان غير موجب للملك عندنا لأن الفعل إنما يكون عدوانا في مال معصوم والعصمة بالإحراز والإحراز بالدار لا بالدين لأن الإحراز بالدين من حيث مراعاة حق الشرع ، والإثم في مجاوزة ذلك ولا يتحقق ذلك في حق المنكرين فإنما يكون الإحراز في حقهم بالدار التي هي دافعة لشرهم حسا وما بقي المال معصوما بالإحراز بدار الإسلام لا يملك بالاستيلاء عندنا وإنما يملك بعد انعدام هذه العصمة بالإحراز بدار الحرب ، والأخذ بعد ذلك ليس بعدوان محض والمحل غير معصوم أيضا فلهذا كان الاستيلاء فيه سببا للملك والدليل على أن الإحراز بالدين لا يظهر حكمه في حقهم فصل الضمان فإنهم لا يضمنون ما أتلفوا من نفوس المسلمين وأموالهم ; وتأثير العصمة في إيجاب الضمان أظهر منه في دفع الملك ثم لما لم يبق للعصمة بالدين اعتبار في حقهم في إيجاب الضمان فكذلك في دفع الملك وتأويل الحديث أنهم لم يحرزوها بدارهم بعد فلم يملكوها ولا ملكت هي فلهذا [ ص: 54 ] استردها وجعل نذرها فيما لا تملك والمراد بالآية حكم الأخذ بدليل قوله تعالى { فالله يحكم بينهم يوم القيامة } وبه نقول أنهم يفارقوننا في دار الآخرة فإنها دار الجزاء ولا سبيل لهم علينا في دار الجزاء إذا عرفنا هذا فنقول : إذا وقع هذا المال في الغنيمة وقد كان المشركون أحرزوه فإن وجده مالكه قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة إن شاء لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين أحرزوا ناقة رجل من المسلمين بدارهم ثم وقعت في الغنيمة فخاصم فيها المالك القديم فقال صلى الله عليه وسلم { إن وجدتها قبل القسمة أخذتها بغير شيء وإن وجدتها بعد القسمة أخذتها بالقيمة إن شئت } .

ففي هذا دليل أنهم قد ملكوها وإنما فرق في الأخذ مجانا بين ما قبل القسمة وما بعدها لأن المستولى عليه صار مظلوما وقد كان يفترض على من يقوم بنصرة الدار وهم الغزاة أن يدفعوا الظلم عنه بأن يتبعوا المشركين ليستنفذوا المال من أيديهم وقبل القسمة الحق لعامة الغزاة فعليهم دفع الظلم بإعادة ماله إليه فأما بعد القسمة فقد تعين الملك لمن وقع في سهمه وعليه دفع الظلم ولكن لا بطريق إبطال حقه وحقه في المالية حتى كان للإمام أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن بين الغانمين وحق المالك القديم في العين فيتمكن من الأخذ بالقيمة إن شاء ليتوصل كل واحد منهما إلى حقه فيعتدل النظر من الجانبين ولأن قبل القسمة ثبوت حق الغزاة فيه ليس بعوض على شيء بل صلة شرعية لهم ابتداء فلا يكون في أخذ المالك القديم إياه مجانا إبطال حقهم عن عوض كان حقا لهم فأما بعد القسمة فمن وقع في سهمه استحق هذا العين عوضا عن سهمه في الغنيمة فلا وجه لإبطال حقه في ذلك العوض فيثبت للمالك القديم حق الأخذ بعد ما يعطي من وقع في سهمه العوض الذي كان حقا له وإنما يأخذه إذا أثبت دعواه فإن مجرد قوله ليس بحجة في إبطال حق الغانمين قبل القسمة ولا في استحقاق الملك على من وقع في سهمه بعد القسمة وهذا إذا كان المأخوذ شيئا لا مثل له فأما الدراهم والدنانير والفلوس والمكيل والموزون فإن وجدها قبل القسمة أخذها بغير شيء وإن وجدها بعد القسمة فلا سبيل له عليها لأن الأخذ شرعا إنما ثبت له إذا كان مفيدا وقبل القسمة هو مفيد فأما بعد القسمة لو أخذها بمثلها وذلك غير مفيد فإن المالية في هذه الأشياء باعتبار الكيل والوزن ولهذا جرى الربا فيها فلكون الأخذ غير مفيد قلنا بأنه لا يكون مشروعا بخلاف ما لا مثل له فإنه يأخذه بالقيمة وذلك يكون مفيدا لما في العين من الغرض الصحيح للناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية