الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فأما نظره إلى ذوات محارمه فنقول : يباح له أن ينظر إلى موضع الزينة الظاهرة والباطنة لقوله تعالى { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } الآية ولم يرد به عين الزينة فإنها تباع في الأسواق ويراها الأجانب ولكن المراد منه موضع الزينة وهي الرأس والشعر والعنق والصدر والعضد والساعد والكف والساق والرجل والوجه فالرأس موضع التاج والإكليل والشعر موضع القصاص والعنق موضع القلادة والصدر كذلك فالقلادة والوشاح قد ينتهي إلى الصدر والأذن موضع القرط والعضد موضع الدملوج والساعد موضع السوار والكف موضع الخاتم والخضاب والساق موضع الخلخال والقدم موضع الخضاب وجاء في الحديث أن الحسن والحسين رضي الله عنهما دخلا على أم كلثوم وهي تمتشط فلم تستتر ولأن المحارم يدخل بعضهم على بعض من غير استئذان ولا حشمة والمرأة في بيتها تكون في ثياب مهنتها عادة ولا تكون مستترة فلو أمرها بالتستر من ذوي محارمها أدى إلى الحرج وكما يباح النظر إلى هذه المواضع يباح المس لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل فاطمة رضي الله عنها ويقول : أجد منها ريح الجنة وكان إذا قدم من سفر بدأ بها فعانقها وقبل رأسها } وقبل أبو بكر رأس عائشة رضي الله عنهما وقال صلى الله عليه وسلم { من قبل رجل أمه فكأنما قبل عتبة الجنة } وقال محمد بن المنكدر رحمه الله بت أغمز رجل أمي وبات أخي أبو بكر يصلي وما أحب أن تكون ليلتي بليلته ولكن إنما يباح المس والنظر إذا كان يأمن الشهوة على نفسه وعليها فأما إذا كان يخاف الشهوة على نفسه أو عليها فلا يحل له ذلك لما بينا أن النظر عن شهوة والمس عن شهوة نوع زنا وحرمة الزنا بذوات المحارم أغلظ وكما لا يحل له أن يعرض نفسه للحرام لا يحل له أن يعرضها للحرام فإذا كان يخاف عليها فليجتنب ذلك ولا يحل له أن ينظر إلى ظهرها وبطنها ولا أن يمس ذلك منها .

وقال الشافعي رحمه الله في القديم : لا بأس بذلك وجعل حالهما كحال الجنس في النظر وهذا ليس بصحيح فإن حكم الظهار ثابت بالنص وصورته أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي وهو منكر من القول لما فيه من تشبيه المحللة بالمحرمة فلو كان النظر إلى ظهر الأم حلالا له لكان هذا تشبيه محللة وإذا ثبت هذا في الظهر يثبت في البطن لأنه أقرب إلى المأتى وإلى أن يكون مشتهى منها والجنبان كذلك [ ص: 150 ] وذوات المحارم بالنسب كالأمهات والجدات والأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت وكل امرأة هي محرمة عليه بالقرابة على التأبيد فهذا الحكم ثابت في حقها وكذلك المحرمة بالرضاع لقوله صلى الله عليه وسلم { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } ولحديث { عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يا رسول الله إن أفلح بن أبي قعيس يدخل علي وأنا في ثياب فضل فقال ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة } وأن عبد الله بن الزبير كان يدخل على زينب بنت أم سلمة وهي تمتشط فيأخذ بقرون رأسها ويقول أقبلي علي وكانت أخته من الرضاعة ولأن الرضاع لما جعل كالنسب في حكم الحرمة فكذلك في حل المس والنظر وكذلك المحرمة بالمصاهرة لأن الله تعالى سوى بينهما بقوله { فجعله نسبا وصهرا } إلا أن مشايخنا رحمهم الله تعالى يختلفون فيما إذا كان ثبوت حرمة المصاهرة بالزنا فقال بعضهم : لا يثبت به حل المس والنظر لأن ثبوت الحرمة بطريق العقوبة على الزاني لا بطريق النعمة ولأنه قد جرب مرة فظهرت خيانته فلا يؤمن ثانيا والأصح أنه لا بأس بذلك لأنها محرمة عليه على التأبيد فلا بأس بالنظر إلى محاسنها كما لو كان ثبوت حرمة المصاهرة بالنكاح ولا يجوز أن يقال : ثبوت الحرمة بطريق العقوبة هناك لأنا إنما نثبت الحرمة هناك بالقياس على النكاح فإذا جعلناها بطريق العقوبة لم تكن تلك الحرمة .

وإثبات الحرمة ابتداء بالرأي لا يجوز ; ثم يحل له أن يخلو بهؤلاء وأن يسافر بهن لقوله صلى الله عليه وسلم { ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فإن ثالثهما الشيطان } معناه ليست بمحرم له فدل أنه يباح له أن يخلو بذوات محارمه ولكن بشرط أن يأمن على نفسه وعليها لما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه خرج من بيته مذعورا فسئل عن ذلك فقال : خلوت بابنتي فخشيت على نفسي فخرجت وكذلك المسافرة لقوله صلى الله عليه وسلم { : لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها } فدل أنه لا بأس بأن تسافر مع المحرم وإن احتاج إلى أن يعالجها في الإركاب والإنزال فلا بأس بأن يمسها وراء ثيابها ويأخذ بظهرها وبطنها لما روي { أن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما أدخل يده في هودج عائشة رضي الله عنها ليأخذها من الهودج فوقعت يده على صدرها فقالت : من الذي وضع يده على موضع لم يضعه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أخوك } وروي { أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أمي كانت سيئة الخلق فغضب وقال : أكانت سيئة الخلق حين [ ص: 151 ] حملتك أكانت سيئة الخلق حين أرضعتك حولين الحديث إلى أن قال الرجل : أرأيت لو حملتها على عاتقي وحججت بها أكنت قاضيا حقها فقال لا ولا طلقة } ورأى ابن عمر رضي الله عنه في موضع الطواف رجلا قد حمل أمه على عاتقه يطوف بها فلما رأى ابن عمر رضي الله عنهما ارتجز فقال

: أنا لها بعيرها المذلل إذا الركاب ذعرت لم أذعر     حملتها ما حملتني أكثر
فهل ترى جازيتها يابن عمر

فقال : لا ولا طلقة يا لكع ولأن بسبب الستر ينعدم معنى العورة وبالمحرمية ينعدم معنى الشهوة فلا بأس بحملها ومسها في الإركاب والإنزال كما في حق الجنس

التالي السابق


الخدمات العلمية