الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( رجل ) غصب من رجل جارية فعيبها فأقام المغصوب منه البينة أنه قد غصب جارية له ، فإنه يحبس حتى يجيء بها ويردها على صاحبها ، ( وكان ) أبو بكر الأعمش - رحمه الله - يقول : تأويل هذه المسألة أن الشهود شهدوا على إقرار الغاصب بذلك ; لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة ، فأما الشهادة على فعل الغصب لا تقبل مع جهالة المغصوب ; لأن المقصود إثبات الملك للمدعي في المغصوب ، ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول ، ولا بد من الإشارة إلى ما هو المقصود بالدعوى في الشهادة ، ولكن الأصح أن هذه الدعوى والشهادة صحيحة لأجل الضرورة ، فإن الغاصب يكون ممتنعا من إحضار المغصوب عادة ، وحين يغصب فإنما يتأتى من الشهود معاينة فعل الغاصب دون العلم بأوصاف المغصوب ، فسقط اعتبار علمهم بالأوصاف ; لأجل التعذر ، ويثبت بشهادتهم فعل الغصب في محل هو مال متقوم ، فصار ثبوت ذلك بالبينة كثبوته بإقراره فيحبس حتى يجيء به ، ولأن وجوب الرد على الغاصب ثابت بنفس الفعل ، وهذا معلوم من شهادتهم ، فيتمكن القاضي من القضاء به ; فلهذا يحبسه حتى يجيء بها ويردها على صاحبها ، فإن قال الغاصب : قد ماتت أو قد بعتها ولا أقدر عليها تلوم القاضي في ذلك زمانا ، ولم يعجل بالقضاء بالقيمة ; لأن بقضائه يتحول الحق من العين إلى القيمة ، وفيه نوع ضرر على صاحبها ، فعين الملك مقصود لصاحبها كماليتها ، وربما يتعلل الغاصب بذلك لتسلم العين عند أداء القيمة ; فلهذا لا يعجل بالقضاء بها ، وليس لمدة التلوم مقدار بل يكون ذلك موكولا إلى رأي القاضي ; لأن نصب المقادير بالرأي لا يكون ، وهذا التلوم إذا لم يرض المغصوب منه بالقضاء بالقيمة له ، فأما إذا رضي بذلك أو تلوم له القاضي فلم يقدر على الجارية ، فإن اتفقا في قيمتها على شيء أو أقام المغصوب منه البينة على ما يدعي من قيمتها قضى له القاضي بذلك ، وإن لم يكن له بينة فالقول قول الغاصب مع يمينه ; لأن المالك يدعي الزيادة وهو منكر لها .

فإن استحلف فنكل كان نكوله بمنزلة إقراره بما يدعيه المالك ، وإن حلف قضي له بما أقر به الغاصب ; لأن ما زاد على ذلك انتفى عنه بيمينه ما لم يقم المالك حجة عليه ، فإن ظهرت الجارية بعد ذلك ، فإن كان القضاء بالقيمة بالبينة أو بالنكول أو بالإقرار من الغاصب بما ادعى المالك فالجارية له لا سبيل للمغصوب منه عليها ، وإن كان القضاء بالقيمة بزعم الغاصب بعد ما يحلف يخير المغصوب منه ، فإن شاء استردها ورد ما قبض على الغاصب ، وإن شاء [ ص: 67 ] أمسك تلك القيمة ، ولا سبيل له عليها . قال الكرخي رحمه الله هذا إذا كانت قيمتها بعد ما ظهرت أكثر مما قال الغاصب ، فأما إذا كانت قيمتها مثل ما قال الغاصب ، فلا خيار له في استردادها ; لأنه يوفر عليه بدل ملكه بكماله . وفي ظاهر الرواية الجواب مطلق وهو الصحيح ; لأنه لم يتم رضاه بزوال ملكه عن العين إذا لم يعط ما يدعيه من القيمة ، وثبوت الخيار له لانعدام تمام الرضا من جهته ، وذلك لا يختلف باختلاف قيمتها فقد لا يرضى الإنسان بزوال العين عن ملكه بقيمته ، وهذا كله مذهبنا ، أما عند الشافعي رحمه الله تعالى فالجارية باقية على ملك مولاها فيستردها إذا ظهرت ، ويرد ما قبض من القيمة .

( وبعض ) المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله يقول : سبب الملك عندنا يقرر الضمان على الغاصب لكي لا يجتمع البدل ، والمبدل في ملك رجل واحد ، وهو معنى قولهم : المضمونات تملك بالضمان ، ولكن هذا غلط ; لأن الملك عندنا يثبت من وقت الغصب ; ولهذا نفذ بيع الغاصب وسلم الكسب له .

( وبعض ) المتأخرين رحمهم الله : يقول الغصب هو السبب الموجب للملك عند أداء الضمان ، وهذا أيضا وهم ، فإن الملك لا يثبت عند أداء الضمان من وقت الغصب للغاصب حقيقة ; ولهذا لا يسلم له الولد . ولو كان الغصب هو السبب للملك لكان إذا تم له الملك بذلك السبب يملك الزوائد المتصلة والمنفصلة كالبيع الموقوف إذا تم بالإجازة يملك المشتري المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة ، ومع هذا في هذه العبارة بعض الشنعة فالغصب هو عدوان محض ، والملك حكم مشروع مرغوب فيه ، فيكون سببه مشروعا مرغوبا فيه ، ولا يصح أن يجعل العدوان المحض سببا له ، فإنه ترغيب للناس فيه لتحصيل ما هو مرغوب لهم به ، ولا يجوز إضافة مثله إلى الشرع ، فالأسلم أن يقول : الغصب موجب رد العين ورد القيمة عند تعذر رد العين بطريق الجبران مقصودا بهذا السبب ، ثم يثبت الملك به للغاصب شرطا للقضاء بالقيمة لا حكما ثابتا بالغصب مقصودا ; ولهذا لا يملك الولد ; لأن الملك كان شرطا للقضاء بالقيمة ، والولد غير مضمون بالقيمة ، وهو بعد الانفصال ليس يتبع ، فلا يثبت هذا الحكم فيه بخلاف الزيادة المتصلة ، فإنه تبع محض ، والكسب كذلك بدل المنفعة فيكون تبعا محضا ، وثبوت الحكم في التبع كثبوته في الأصل سواء ثبت في المتبوع مقصودا بسببه أو شرطا لغيره . وجه قول الشافعي رحمه الله الاستدلال بقوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فالله تعالى جعل أكل مال الغير قسمين قسم بالباطل ، وقسم بالتجارة عن تراض ، وهذا [ ص: 68 ] ليس بتجارة عن تراض فيكون أكلا بالباطل ، والمعنى فيه أن الغصب عدوان محض ; لأنه ليس فيه شبهة الإباحة بوجه ما ، فلا يكون موجبا للملك كالقتل . وتأثيره ما قلنا : أن الملك حكم مشروع فيستدعي سببا مشروعا ، والعدوان المحض ضد المشروع ، فأدنى درجات المشروع أن يكون مرضيا به ، وأن يكون مباحا ، والعدوان المحض ضده ، ولا يجوز أن يثبت الملك بضمان القيمة ; لأن هذا ضمان جبران فيكون بمقابلة الفائت بالغصب ، والفائت بالغصب يد المالك لا ملكه .

فعرفنا أن هذا الضمان بمقابلة النقصان الذي حل بيد الغاصب لا أن يكون بدلا عن العين ; ولهذا قلتم : لوهشم قلب فضة لإنسان ، وقضى القاضي عليه بالقيمة ، ثم افترقا من غير قبض لا يبطل القضاء ، ولو كان بدلا عن العين كان صرفا فيبطل بالافتراق من غير قبض ، ولما ثبت أن هذا الضمان بطريق الجبران ، فلا يكون الجبران بتفويت ما هو قائم بل هو بإحياء ما هو فائت ، وملكه في العين كان قائما ، فلو جعلناه زائلا بالقضاء بالقيمة له كان هذا تفويتا لا جبرانا ، ولا كانت القيمة بدلا عن العين فهو حلف يصار إليه عند وقوع اليأس عن رد العين ، ومثل هذا الحلف يسقط اعتباره عند ظهور العين كما لو قلع سن إنسان فاستوفي به حولا كاملا ، ثم قضى له بالأرش فقبض ، ثم نبت سنه يلزمه رد المقبوض من الأرش بهذا المعنى ، واعتمادهم على فصل المدبر ، وبهذا يتضح جميع ما قلنا ، فإن الغصب يتحقق في المدبر ، وسبب الملك عندكم لا يتحقق في المدبر ، وبقضاء القاضي بالقيمة لا يزول عن ملكه ، ولو كان شرط القضاء بالقيمة انعدام ملكه في العين أو كانت العين بدلا عن العين لما قضى القاضي بها في محل لا يتحقق فيه هذا الشرط ، وإن تم بقضاء القاضي ينبغي أن يزول ملكه عن المدبر ، كما لو قضى بجواز بيع المدبر .

وحجتنا في ذلك { قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشاة المغصوبة المصلية : أطعموها الأسارى } فقد أمرهم بالتصدق بها ، ولو لم يملكوها لما أمرهم بالتصدق بها ; لأن التصدق بملك الغير إذا كان مالكه معلوما لا يجوز ، ولكن يحفظ عليه عين ملكه ، فإن تعذر ذلك يباع ، ويحفظ عليه ثمنه . والمعنى فيه أن الغصب الموجب للضمان مختص بمحل هو مال متقوم فيثبت الملك به إذا أمكن كالبيع والصلح .

وبيان الوصف أن غصب الحر لا يتحقق موجبا للضمان ; لأنه ليس بمال ، وكذلك غصب الخمر من المسلم ; لأنه غير متقوم ، وتأثيره أن اختصاص السبب بمحل لا يكون إلا لاختصاصه بحكم يختص بذلك المحل ، فالمحل الذي هو مال متقوم يختص بصحة التمليك فيه ، فلما اختص الغصب الموجب للضمان به عرفنا أنه إنما اختص بهذا الحكم ، فإن الفعل الذي [ ص: 69 ] هو عدوان محض ، وإزالة اليد المحترمة لا تختص بمحل هو مال متقوم . ثم حقيقة المعنى أن الضمان الواجب على الغاصب بدل العين ، ألا ترى أنه يقوم العين به ، وأنه يسمي الواجب قيمة العين ، ويتقدر بمالية العين ، ولأن الضمان بمقابلة ما هو المقصود ، ومقصود صاحب الدراهم عين الدراهم لامتلاء كيسه بها ، فعرفنا أن الضمان بدل العين ، وإنما يقضى بها جبرانا ، والجبران يستدعي الفوات لا محالة ; لأنه إنما يجيز الفائت دون القائم ، فكان من ضرورة القضاء بقيمة العين انعدام ملكه في العين فيكون جبرانا لما هو فائت ، وما لا يمكن إثباته إلا بشرط ، فإذا وقعت الحاجة إلى إثباته يقدم شرطه عليه لا محالة ، كما إذا قال لغيره : أعتق عبدك عني على ألف درهم فأعتقه ، يقدم التمليك منه على نفوذ العتق منه ضرورة كونه شرطا في المحل إلا أن يكون قوله : أعتقه عني سببا للتمليك مقصودا .

إذا تقرر هذا تبين أنه إنما يثبت بالعدوان المحض ما هو حسن مشروع به ، وهو القضاء بالقيمة جبرانا لحقه في الفائت ، ثم انعدام الملك في العين لما كان من شرطه هذا المشروع يثبت به ، ويكون حسنا بجنسه ; ولهذا لا يشترط التقابض ; لأن شرط التقابض فيما هو سبب للملك مقصود إلا فيما يثبت شرطا لغيره ، كما لا يشترط القبول في قوله : أعتق عبدك عني على ألف درهم ; لأن شرط القبول في سبب ملك مقصود لا فيما هو شرط لغيره ; ولهذا قلنا : إن المغصوب ، وإن كان هالكا عند القضاء بالقيمة يصير مملوكا للغاصب ; لأن الهالك مما لا يقبل التمليك مقصود بسببه لا شرطا لغيره ، وكذلك يقول : إذا أخذ القيمة بزعم الغاصب فالعين لا تبقى على ملكه ، ولكن يتخير عند ظهوره لعدم تمام الرضى به ، كالمشتري إذا وجد بالمبيع عيبا .

( فأما ) المدبر ففي تخريجه طريقان :

أحدهما : أن هناك لا يقول ببقاء العين على ملكه بعد تقرر حقه في القيمة بل يجعل زائلا عن ملكه لتحقيق هذا الشرط ; ولهذا لو لم يظهر المدبر بعد ذلك وظهر له كسب فذلك الكسب يكون للغاصب دون المغصوب منه إلا أنه إذا ظهر المدبر يعاد إليه صيانة لحق المدبر ، فإن حق العتق ثبت له بالتدبير عندنا .

الثاني : أن في المدبر القيمة ليست ببدل عن العين ; لأن ما هو شرطه وهو انعدام الملك في العين متعذر في المدبر ، فيجعل هذا خلفا عن النقصان الذي حل بيده ، ولكن هذا عند الضرورة ففي كل محل يمكن اتحاد الشرط لا تتحقق الضرورة فيجعل بدلا عن العين ، وإذا تعذر اتحاد الشرط يجعل خلفا عن النقصان الذي حل بيده ، ونظيره فصلان :

أحدهما ضمان العتق ، فإنه بمقابلة العين في كل محل يمكن اتحاد الشرط ، وهو تمليك العين ، وفيما لا يحتمل [ ص: 70 ] اتحاد هذا الشرط كالمدبر ، وأم الولد عندهم لا يجعل بدلا عن العين ، وكذلك ضمان الصلح ، فإنه إذا أخذ القيمة بالتراضي كان المأخوذ بدلا عن العين في كل محل يحتمل تمليك العين ، وفي كل محل لا يحتمل تمليك العين يجعل المأخوذ بمقابلة الجناية التي حلت بيده ، وكذلك إذا أخذ القيمة بقضاء القاضي ، وفيما تلا من الآية بيان أن الأكل بالتجارة عن تراض جائز لا أن يكون الجواز مقصودا عليه ، ثم معنى التجارة عن تراض يندرج هنا من وجه ، فإن المالك هنا متمكن من أن يصبر حتى تظهر العين فيأخذها .

فحين طالب بالقيمة مع علمه أن من شرطه انعدام ملكه في العين ، فقد صار راضيا بذلك ; لأن من طلب شيئا لا يتوصل إليه إلا بشرط كان راضيا بالشرط كما يكون راضيا بمطلوبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية