الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
. ولو اغتصب ثوبا فخرقه ، فإن كان خرقا صغيرا ضمن الغاصب النقصان فقط ، وأخذ صاحب الثوب ثوبه ; لأن العين قائم من كل وجه فبهذا القدر من الخرق لا يخرج من أن يكون صالحا لما كان صالحا قبله ، وإنما يتمكن في قيمته نقصان فيضمن ذلك النقصان ، وإن كان الخرق كبيرا ، وقد أفسد الثوب فصاحبه بالخيار إن شاء ضمن الغاصب قيمة ثوبه ; لأنه مستهلك من كل وجه ، فإنه لا يصلح بعد هذا الخرق لجميع ما كان صالحا قبله له ، وإن شاء أخذ الثوب لكونه قائما حقيقة ، وضمنه ما نقصه فعل الغاصب .

( وأما ) الدابة إذا غصبها فقطع يدها أو رجلها فلصاحبها أن يضمن الغاصب قيمتها بخلاف ما لو كان المغصوب عبدا أو جارية فيقطع منه يدا أو رجلا فهناك يأخذه مع أرش المقطوع ; لأن الآدمي بقطع طرف منه لا يصير مستهلكا لبقائه صالحا لعامة ما كان صالحا له من قبل . والدابة تصير مستهلكة بقطع طرف منها ، فإنه لا ينتفع بها بما هو المقصود من الحمل والركوب بعد هذا القطع ; فلهذا كان لصاحبها أن يتركها للغاصب ويضمنه قيمتها . وكذلك لو كانت بقرة أو جزورا فقطع يدها أو رجلها أو كانت شاة فذبحها ; لأن الذبح استهلاك من وجه ، فإنه يفوت به بعض ما كان مقصودا من النسل واللبن فلصاحبها أن يضمنه قيمتها إن شاء ، وإن شاء أخذ المذبوح مسلوخا كان أو غير مسلوخ ، وضمن الغاصب النقصان في ظاهر الرواية ، وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله لا يضمنه شيئا ; لأن الذبح والسلخ في الشاة زيادة ; ولهذا يلتزم بمقابلته العوض ، ولكن ما ذكره في ظاهر الرواية أصح ; لأنه زيادة من حيث التقرب إلى الانتفاع باللحم ، ولكنه نقصان بتفويت سائر الأغراض من الحيوان ، ولأجله يثبت الخيار فكان هذا والقطع في الثوب سواء يضمنه النقصان إن شاء .

( وإذا ) طحن الغاصب الحنطة فعليه مثلها ، والدقيق له عندنا . وسوى هذا عن أبي يوسف روايتان :

( إحداهما ) أن حق المغصوب منه لا ينقطع عن الدقيق لا على معنى أنه يتمكن من أخذه ، ولكن يباع فيشتري له به حنطة مثل حنطته ، وإن مات الغاصب فالمغصوب منه أحق به من سائر الغرماء ; لأنه زال ملكه [ ص: 87 ] ويده بسبب لم يرض به ، ولو زال ملكه بسبب هو راض به كالبيع لا ينقطع حقه ، وإذا أزيلت يده بغير رضاه بأن قبض المشتري المبيع بغير إذن البائع فهنا أولى أن لا ينقطع حقه .

( والرواية الأخرى ) أن ملكه لا يزول بل له الخيار ، وإن شاء ترك الدقيق ، وضمنه حنطة مثل حنطته ، وإن شاء أخذ الدقيق ، ولم يضمنه شيئا .

قال : أستحسن ذلك وأخالف فيه أبا حنيفة ; لأنه استقبح أن يأتي مفلس إلى كر حنطة إنسان فيطحنه ثم يهب الدقيق لابنه الصغير ، فلا يتوصل صاحب الحنطة إلى شيء ، فهذا قول الشافعي رحمه الله أيضا إلا أن عند الشافعي رحمه الله يأخذ الدقيق ، ويضمنه النقصان إن كان لما بينا أن على أصله تضمين النقصان مع أخذه العين في أموال الربا جائز ، وعند أبي يوسف لا يجوز ذلك كما هو مذهبنا .

ووجه هذا أن الدقيق عين شبه فيكون له أن يأخذه كما قبل الطحن ، وهذا لأن عمل الطحن في تفريق الأجزاء لا لإحداث ما لم يكن موجودا ، وتفريق الأجزاء لا يبدل العين كالقطع في الثوب ، والذبح والسلخ والتأريب في الشاة . والدليل عليه أن الدقيق جنس الحنطة ; ولهذا جرى الربا بينهما ، ولا يجري الربا إلا باعتبار المجانسة .

واستدل محمد رحمه الله في إملاء الكيسانيات لأبي حنيفة رحمه الله بالحديث الذي رواه أبو حنيفة عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبي مرة عن أبي موسى { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ضيافة رجل من الأنصار فقدم إليه شاة مصلية فأخذ منها لقمة فجعل يلوكها ولا يسيغها فقال صلى الله عليه وسلم : إنها ذبحت بغير حق فقال الأنصاري : كانت شاة أخي ، ولو كانت أعز منها لم ينفس علي بها ، وسأرضيه بما هو خير منها إذا رجع قال صلى الله عليه وسلم : أطعموها الأسارى } . قال محمد يعني المحبوسين ، فأمره بالتصدق بها بيان منه أن الغاصب قد ملكها ; لأن مال الغير يحفظ عليه عينه إذا أمكن ، وثمنه بعد البيع إذا تعذر عليه حفظ عينه ، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتصدق بها دل أنه ملكها ، والخلاف في الفصلين سواء قال محمد وهذا الحديث جعله أبو حنيفة رحمه الله أصلا في أكثر مسائل الغصب ، والمعنى فيه أن هذا الدقيق غير الحنطة ، وهو إنما غصب الحنطة ، فلا يلزمه رد الدقيق كمن أتلف حنطة لا يلزمه رد الدقيق .

وبيان المغايرة أنهما غيران اسما ، وهيئة ، وحكما ، ومقصودا . وكذلك يتعذر إعادة الدقيق إلى صفة الحنطة . وتحقيقه أن الموجودات من المخلوقات تعرف بصورتها ومعناها ، فتبدل الهيئة والاسم دليل على أن المغايرة صورة ، وتبدل الحكم والمقصود دليل على المغايرة معنى ، وإذا ثبتت المغايرة فمن ضرورة ثبوت الثاني انعدام [ ص: 88 ] الأول لاستحالة أن يكون الشيء الواحد شيئين ، وإذا انعدم الأول بفعله صار ضامنا مثله ، وقد ملكه بالضمان فيجعل هذا الدقيق حادثا من ملكه فيكون مملوكا له أو يجعل حادثا بفعله ، وفعله سبب صالح لحكم الملك فيصير مضافا إليه ، ولكن بين الدقيق والحنطة شبهة المجانسة من حيث الصورة ، وهو أن عمل الطحن صورة تفريق الأجزاء ، وباب الربا مبني على الاحتياط لبقاء شبهة المجانسة من هذا الوجه جرى حكم الربا بخلاف القطع في الثوب ، والذبح في الشاة ، فإن بالذبح لا يفوت اسم العين يقال : شاة مذبوحة ، وشاة حية ، فبقيت مملوكة لصاحبها ، ثم بالسلخ والتأريب بعد ذلك لا يفوت ما هو المقصود بالذبح بل تحقق ذلك المقصود ، فلا يكون ذلك دليل تبديل العين ; فلهذا كان لصاحبها أن يأخذها ، ثم على قول زفر للغاصب أن يأكل هذا الدقيق ، وينتفع به قبل أن يؤدي الضمان ، وهو القياس ; لأن ملكه حادث بكسبه . وفي الاستحسان ، وهو قولنا ليس له أن ينتفع بما ما لم يؤد الضمان بالتراضي أو بقضاء القاضي ، أو يقضى عليه بالضمان لما بينا أن من حيث الصورة هذه أجزاء ملك المغصوب منه ، وهذه الصورة معتبرة فيما بني على الاحتياط ، والأكل مبني على ذلك ، فإنما يتم تحول حق المغصوب منه إلى الضمان بالاستيفاء أو بالقضاء فلهذا لا ينتفع به إلا بعده .

التالي السابق


الخدمات العلمية