الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا اشترى [ ص: 152 ] المريض دارا بألفي درهم وقيمتها ألف درهم وله سوى ذلك ألف درهم ، ثم مات ، فالبيع جائز وللشفيع فيها الشفعة ; لأنه إنما حاباه بقدر الثلث ، وذلك صحيح منه في حق الأجنبي فيجب للشفيع فيها الشفعة ولو كان باع دارا بقيمتها ، أو أكثر ووارثه شفيعها ، فلا شفعة له في قول أبي حنيفة ; لأن بيعه من الوارث لا يجوز عند أبي حنيفة ، وكذلك بيعه من الأجنبي لا يكون مثبتا حق الأخذ بالشفعة للوارث وعند أبي يوسف ومحمد للوارث أن يأخذها بالشفعة ; لأنه لو باعها منه بذلك الثمن جاز البيع فكذلك إذا باعها من أجنبي آخر والوارث شفيعها ; لأن الشفيع يتقدم على المشتري في تملكها بالسبب الذي باشره المشتري إذا أخذها بالشفعة ، وإن باعها بألفين وقيمتها ثلاثة آلاف درهم وشفيعها أجنبي فله أن يأخذها بألفين ; لأن المحاباة بقدر الثلث ، وذلك صحيح منه في حق الأجنبي ، فإن قيل كيف يأخذها الشفيع بألفين ، والوصية كانت منه للمشتري دون الشفيع ، ومن أوصى لإنسان بشيء من ماله لا يجوز تنفيذ الوصية لغير من أوصى له به قلنا هو كذلك في وصية مقصودة ، فالوصية هنا لم تكن مقصودة ، وإنما كانت في ضمن البيع ، ألا ترى أنها لا تبقى بعد ما بطل البيع وفي حق البيع الشفيع صار مقدما على المشتري شرعا فكذلك فيما هو من متضمنات البيع ، ولما أوجب البيع له بما سمي من الثمن مع علمه أن الشفيع يتمكن من الأخذ بمثل ما اشترى به المشتري فكأنه أوجب الوصية بالمحاباة للمشتري إن سلم الشفيع له وللشفيع أن يأخذها بالشفعة

وإن كان للدار شفيعان أحدهما وارث ، فلا شفعة للوارث ; لأنه لو لم يكن لها شفيع سواه لم يستحقها بالشفعة في هذا البيع ، فإذا كان معه شفيع آخر أولى أن لا يستحقها ، وإذا انعدمت مزاحمته كان للأجنبي أن يأخذ الكل بالشفعة بمنزلة ما لو سلم أحد الشفيعين شفعته ، وإن باعها بألف درهم وهي تساوي ألفين ، وليس له مال غيرها قيل للمشتري إن شئت فخذها بثلثي الألفين ، وإن شئت فدع ; لأنه حاباه بنصف ماله ، ولا يمكن تنفيذ المحاباة ، إلا في مقدار الثلث ، والمشتري يتمكن من إزالة المانع بأن يلتزم إلى تمام ثلثي الألفين ، إلا أنه يتخير في ذلك ; لأنه يلزمه زيادة في الثمن لم يرض بالتزامها ، فإن شاء فسخ البيع لأجله ، ولا شيء له ; لأن الوصية كانت في ضمن البيع ، وقد بطل البيع ، وإن شاء التزم ذلك فيسلم له الوصية بقدر الثلث كما لو كان اشتراها في الابتداء بثلثي الألفين وأي ذلك فعل كان للشفيع فيها الشفعة أما عند إمضاء البيع ، فلا إشكال وأما عند الرد فلأن البيع كان صحيحا موجبا للشفعة حتى إذا ظهر للميت مال آخر ، فالبيع سالم للمشتري وباعتبار صحة البيع [ ص: 153 ] وجبت الشفعة للشفيع ، ثم الرد من المشتري يعمل في إبطال حقه لا في إبطال حق الشفيع كما لو تفاسخا البيع ، ولكن الشفيع يأخذها بثلثي الألفين ; لأنها ما كانت تسلم للمشتري إلا بهذا القدر من الثمن فكذلك الشفيع .

وإن باعها بألفين إلى أجل وقيمتها ثلاثة آلاف ، فالأجل باطل ; لأن المحاباة بالقدر استغرقت ثلث المال ، فلا يمكن تنفيذ الوصية بالأجل في شيء ، ولكن يتخير المشتري بين أن يفسخ البيع أو يؤدي الألفين حالة ; ليصل إلى الورثة كمال حقهم وأي ذلك فعل فللشفيع أن يأخذها بالشفعة ; لأنه قائم مقام المشتري في حكم هذا البيع كما في الفصل الأول وهذا أظهر من ذلك ، فالأجل في الثمن لا يثبت في حق الشفيع ، وقد بينا أن خيار المشتري لا يمنع وجوب الشفعة للشفيع ، وإن باعها بثلاثة آلاف إلى سنة وقيمتها ألفان قيل للمشتري : إن شئت فعجل ألفين ، وإن شئت فدع في قول أبي يوسف ، وهو قياس قول أبي حنيفة وقال محمد : إن شاء عجل ثلثي قيمتها ويكون الباقي عليه إلى أجل ، وإن شاء تركه ، وقد تقدم بيان نظير هذه المسألة في كتاب العتاق وذكرنا أن من أصل محمد أن تأجيل المريض صحيح مطلقا فيما له أن لا يتملكه أصلا كما في الصداق وبدل الصلح عن القصاص .

وعند أبي يوسف : جميع المسمى مملوك بإزاء مال تعلق به حق الورثة ، فلا يصح تأجيله فيه ، إلا بقدر الثلث ; لأن التأجيل بمنزلة الإسقاط من حيث إن الحيلولة تقع بين الورثة وبين المال في الحال بسبب الأجل ; ولهذا لو رجع شهود التأجيل ضمنوا كما تضمن شهود الإبراء فعلى ذلك الأصل تنبني هذه المسألة ، وقد قررنا هذا الكلام فيما أمليناه من شرح الجامع في هذه المسألة بعينها وأما الشفيع ، فالأجل لا يثبت في حقه ، ولكنه بالخيار إن شاء عجل المال كله وأخذ الدار كلها ، وإن شاء كف حتى يحل المال ، وقد بينا هذا في الصحيح ببيع داره بثمن مؤجل أن الأجل لا يثبت في حق الشفيع ، فهو مثله في حق المريض وإذا باع المريض دارا ، أو حابى فيها ، ثم برئ من مرضه ، والشفيع وارثه ، فإن لم يكن علم بالبيع حتى الآن فله أن يأخذها بالشفعة ; لأن المرض إذا تعقبه برء ، فهو بمنزلة حال الصحة ، وإن كان قد علم بالبيع ، وقد بطلت الشفعة حتى برئ من مرضه ، فلا شفعة له ; لأن السبب الموجب للشفعة له البيع ، وقد سكت عن الطلب بعد ما علم بالسبب فتبطل شفعته به ، وإن لم يكن متمكنا من الأخذ عند ذلك ، كالجار إذا سكت عن الطلب بعد علمه بالبيع لمكان الشريك ، ثم سلم الشريك لم يكن له أن يأخذ بالشفعة فهذا مثله . والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية