الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو دفع إليه ثوبا ليقطعه قميصا واشترط عليه إن خاطه اليوم فله درهم ، وإن لم يفرغ منه اليوم فله نصف درهم ، عند أبي حنيفة رحمه الله إن خاطه اليوم فله درهم [ ص: 100 ] وإن لم يفرغ منه اليوم فله أجر مثله لا ينقص عن نصف درهم ولا يجاوز به درهما وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : هو على ما اشترط إذا فرغ منه اليوم فله درهم ، وإن فرغ منه بعد ذلك فله نصف درهم وقال زفر رحمه الله : العقد فاسد كله وهو قول الشافعي رحمه الله وهذه فصول ( أحدها ) أن يقول إن خطته اليوم فلك درهم ، وإن خطته غدا فلا شيء لك وهو فاسد بالاتفاق ; لأن هذه مخاطرة ; فإنه شرط له على نفسه درهما إن خاطه اليوم ولنفسه عليه العمل إن لم يخطه اليوم وهو صورة القمار فكان فاسدا ولأنه يصير تقدير كلامه كأنه قال : لك أجر درهم على خياطتك ، أو لا شيء ولو قال ذلك كان العقد فاسدا وكان له أجر مثله لا يجاوز درهما فهذا مثله ( والفصل ) الثاني أن يقول إن خطت خياطة رومية فلك درهم ، وإن خطته خياطة فارسية فلك نصف درهم ، أو يقول إن خطته قباء فلك درهم ، وإن خطته قميصا فلك نصف درهم فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الأول العقد فاسد كله ، وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله وهو القياس ، ثم رجع أبو حنيفة فقال الشرطان جائزان وهو قول أبي يوسف ومحمد وجه قوله الأول : أن العقد عليه مجهول عند العقد والبدل مجهول وجهالة أحدهما في المعارضة تكون مفسدة للعقد فجهالتهما أولى كما لو قال : بعت منك هذا العبد بألف درهم ، أو هذه الجارية بمائة دينار أو زوجتك أمتي هذه بمائة درهم ، أو ابنتي هذه بمائة دينار فقال : قبلت كان باطلا وهذا ; لأن عقد الإجارة يلزم بنفسه وإذا لم يعين عليه نوعا من العمل عند العقد لا يدري بماذا يطالبه فكان العقد فاسدا ووجه قوله الآخر أنه خيره بين نوعين من العمل كل واحد منهما معلوم في نفسه

والبدل بمقابلة كل واحد منهما مسمى معلوم فيجوز العقد ، كما لو اشترى ثوبين على أن له الخيار يأخذ أيهما شاء ويرد الآخر وسمى لكل واحد منهما ثمنا وهذا ; لأن الأجر لا يجب بنفس العقد وإنما يجب بالعمل وعند العمل ما يلزمه من البدل معلوم ، وكذلك عقد الإجارة في حق المعقود عليه كالمضاف وإنما ينعقد عند إقامة العمل وعند ذلك لا جهالة في المعقود عليه بخلاف النكاح والبيع فالعقد هناك ينعقد لازما في الحال والبدل يستحق بنفس العقد فإذا لم يكن معلوما عند العقد كان العقد فاسدا ( والفصل ) الثالث أن يقول إن خطته اليوم فلك درهم ، وإن خطته غدا فلك نصف درهم فعند أبي حنيفة رحمه الله الشرط الأول جائز والثاني فاسد وعندهما الشرطان جائزان وفي القياس يفسد الشرطان وهو قول زفر رحمه الله كما في الفصل الأول .

( ألا ترى ) أنه لو قال : في البيع إن أعطيت لي الثمن إلى شهر فعشرة دراهم [ ص: 101 ] وإن أعطيته إلى شهرين فخمسة عشر درهما كان العقد كله فاسدا للتردد بين التسميتين ; ولهذا التردد أفسد أبو حنيفة رحمه الله الشرط الثاني فكذلك يفسد الشرط الأول وهما اعتبرا هذا في الفصل الثاني قالا : إنه سمى عملين وسمى بمقابلة كل واحد منهما بدلا معلوما فيجوز العقد كما في الفصل الثاني وهذا ; لأن عمله في الغد غير عمله في اليوم ولصاحب الثوب في إقامة العمل وفي كل وقت غرض صحيح وإنما يجب الأجر عند إقامة العمل ولا جهالة عند ذلك بخلاف الفصل الأول فهناك إنما أفسدنا العقد لمعنى القمار ، وذلك غير موجود هنا ; لأنه في اليومين شرط الأجر له على نفسه

وأبو حنيفة رحمه الله يقول : علق البراءة عن بعض الأجر بشرط فوات منفعة التعجيل بقوله إن لم تفرغ منه اليوم فلك نصف درهم ، ولو علق البراءة عن جميع الأجر بهذا الشرط لم يصح بأن قال : وإن لم تفرغ منه اليوم فلا شيء لك ، فكذلك إذا علق البراءة عن بعض الأجر به اعتبارا للبعض بالكل ولأن البراءة لا تحتمل التعليق بالشرط وهذا ; لأن الخياطة في اليومين بصفة واحدة وإنما تفوت منفعة التعجيل بتأخير العمل إلى الغد بخلاف الخياطة الرومية والفارسية ; فإنهما مختلفان فلا يكون ذلك تعليق البراءة عن بعض الأجر حتى لو قال هناك ، وإن خطته فارسيا فلا أجر لك كان ذلك استعانة صحيحة في خياطة الفارسية ، واختلفت الروايات فيما إذا قال له خط هذا الثوب اليوم بدرهم فخاطه غدا ماذا يجب له ففي إحدى الروايتين يجب المسمى بمنزلة قوله خطه بدرهم وفي الرواية الأخرى يجب أجر المثل لا يجاوز به درهما ; لأنه رضي بالدرهم بشرط منفعة التعجيل فإذا فاته ذلك يلزمه أجر المثل فعلى الرواية الأولى يقول : اجتمع في اليوم الثاني تسميتان درهم ونصف درهم فكان العقد فاسدا كما لو قال : خطه بدرهم ، أو بنصف درهم وبيان ذلك أن موجب التسمية الأولى عند الخياطة غدا الدرهم لو اقتصر عليه فهو بالتسمية الثانية يضم الشرط الثاني إلى الأول في الغد مع بقاء الأول فتجتمع تسميتان بخلاف اليوم الأول فليس فيه إلا تسمية واحدة وهو الدرهم ; لأن تسمية نصف درهم في الغد لا موجب له في اليوم حتى إذا قال : استأجرتك غدا لتخيطه بنصف درهم فخاطه اليوم فلا أجر له ; فلهذا صح الشرط الأول دون الثاني بخلاف الخياطة الرومية والفارسية ; لأنه لا تجتمع تسميتان في واحد من العملين حتى لو قال : خطه خياطة رومية بدرهم فخاطه خياطة فارسية كان مخالفا

وعلى الرواية الأخرى يقول : التسمية الأولى لها موجب في اليوم الثاني وهو أجر المثل فهو بتسمية نصف درهم قصد تغيير [ ص: 102 ] موجب تلك التسمية مع بقائها وذلك فاسد كما في قوله ، وإن خطته غدا فلا شيء لك بخلاف الخياطة الرومية والفارسية ; لأنه ليس لأحد العقدين موجب في العمل الآخر فكانا عقدين مختلفين كل واحد منهما ببدل مسمى معلوم فيها فلهذا افترقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية