الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثم المزارعة على قول من يجيزها على أربعة أوجه أحدها : أن تكون الأرض من أحدهما والبذر والعمل والبقر وآلات العمل كله من الآخر ، فهذا جائز ; لأن صاحب البذر مستأجر للأرض بجزء معلوم من الخارج ، ولو استأجرها بأجرة معلومة من الدراهم والدنانير صح ، فكذا إذا أستأجرها بجزء مسمى من الخارج شائع . والوجه الثاني : أن تكون الأرض والبذر والبقر والآلات من أحدهما والعمل من الآخر فهذا جائز أيضا ; لأن صاحب الأرض استأجر العامل [ ص: 20 ] ليعمل بآلاته له ، وذلك صحيح كما لو استأجر خياطا ليخيط بإبرة صاحب الثوب ، أو طيانا ليجعل الطين بآلة صاحب العمل . والوجه الثالث : أن تكون الأرض والبذر من أحدهما ، والبقر والآلات من العامل وهذا جائز أيضا ; لأن صاحب الأرض استأجره ليعمل بآلات نفسه وهذا جائز ، كما إذا استأجر خياطا ليخيط بإبرة نفسه ، أو قصارا ليقصر الثوب بآلات نفسه ، أو صباغا ليصبغ الثوب بصبغ له ، فكذلك هنا وهذا ; لأن منفعة البقر والآلات من جنس منفعة العامل ; لأن إقامة العمل يحصل بالكل ، فيجعل ذلك نابعا لعمل العامل في جواز استحقاقه بعقد المزارعة والرابع : أن يكون البذر من قبل العامل والبقر من قبل رب الأرض وهذا فاسد في ظاهر الرواية ; لأن صاحب البذر مستأجر للأرض والبقر ، واستئجار البقر بجزء من الخارج مقصودا لا يجوز وهذا لأن منفعة البقر ليست من جنس منفعة الأرض فإن منفعة الأرض قوة في طبعها يحصل به الخارج ، ومنفعة البقر يقام به العمل ، فلانعدام المجانسة لا يمكن جعل البقر تبعا لمنفعة الأرض ، ولا يجوز استحقاق منفعة البقر مقصودا بالمزارعة كما لو كان البقر مشروطا على أحدهما فقط . والأصل فيه حديث مجاهد في اشتراك أربعة نفر كما بينا ، وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أن هذا النوع جائز أيضا للعرف ; ولأنه لما جاز أن يكون البقر مع البذر مشروطا على رب الأرض في المزارعة فكذلك يجوز أن يكون البقر بدون الأرض مشروطا عليه ، كما في جانب العامل لما جاز أن يكون البذر مع البقر مشروطا على العامل جاز أن يكون البقر مشروطا عليه بدون البذر ، ثم في الوجوه الثلاثة إن حصل الخارج كان بينهما على الشرط ، وإن لم يحصل الخارج فلا شيء لواحد منهما على صاحبه ; لأن العقد بينهما شركة في الخارج ، ولئن كان إجارة فالأجرة يتعين محلها بتعيينها وهو الخارج ومع انعدام المحل لا يثبت الاستحقاق ، وهكذا في الوجه الرابع على رواية أبي يوسف . فأما في ظاهر الرواية فالخارج كله لصاحب البذر ; لأنه نماء بذره فإنه يستحقه الغير عليه بالشرط بحكم عقد صحيح ولم يوجد وعليه لصاحب الأرض أجرة مثل الأرض والبقر ; لأنه مستوفيا منفعة أرضه وبقره بحكم عقد فاسد ، ومن أصحابنا - رحمهم الله - من يقول تأويل قوله عليه أجر المثل لأرضه وبقره أنه يغرم له أجر مثل الأرض مكروبة ، فأما البقر فلا يجوز أن يستحقه بعقد المزارعة بحال فلا ينعقد العقد عليه صحيحا ولا فاسدا ، ووجوب أجر المثل لا يكون بدون انعقاد العقد فالمانع لا يتقوم إلا بالعقد ، والأصح أن عقد المزارعة من جنس الإجارة ، ومنافع البقر يجوز استحقاقها بعقد الإجارة فينعقد عليها [ ص: 21 ] عقد المزارعة بصفة الفساد ، ويجب أجر مثلها كما يجب أجر مثل الأرض ، وزعم بعض أصحابنا أن فساد العقد هنا على أصل أبي حنيفة ; لأنه فسد العقد في حصة البقر ، ومن أصله أن العقد إذا فسد بعضه فسد كله ، فأما عندهما فينبغي أن يجوز العقد في حصة الأرض وإن كان يفسد في حصة البقر ، والأصح أنه قولهم جميعا ; لأن حصة البقر لم يثبت فيه الاستحقاق أصلا ، وحصة الأرض من المشروط مجهول فيفسد العقد فيه للجهالة ، وقد بينا نظيره في الصلح إذا صولح أحد الورثة من العين والدين على شيء في التركة ، وسواء أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج فأجر المثل واجب لصاحب الأرض والبقر ; لأن محل وجوب الأجر هنا الذمة دون الخارج ، وإنما يجب استيفاء المنفعة ، وقد تحقق ذلك سواء أحصل الخارج أم لم يحصل ، وقيل : ينبغي في قياس قول أبي يوسف - رحمه الله - أن لا يزاد بأجر مثل أرضه وبقره على نصف الخارج الذي شرط له ، وفي قول محمد يجب أجر المثل بالغا ما بلغ على قياس الشركة في الاحتطاب ، وقد بيناه في كتاب الشركة فإن كان البذر من عند صاحب الأرض واشترط أن يعمل عنده مع العامل ، والخارج بينهم أثلاث جازت المزارعة وللعامل ثلث الخارج والباقي كله لرب الأرض ; لأن اشتراط العبد على رب الأرض والبذر كاشتراط البقر عليه في هذا الفصل ، وأنه صحيح فكذلك اشتراط العبد عليه ، ثم المشروط للعبد إن لم يكن عليه دين فهو مشروط لصاحب الأرض ، وإن كان عليه دين ففي قولهما كذلك ، وفي قياس قول أبي حنيفة : المولى من كسب عبده المديون كالأجنبي ، فكأنه دفع الأرض والبذر مزارعة إلى عاملين ، على أن لكل واحد منهما ثلث الخارج ، حتى إن في هذا الفصل لو لم يشترط العمل على العبد ففي قولهما : المشروط للعبد يكون لرب الأرض فيجوز العقد ، وفي قياس قول أبي حنيفة المشروط للعبد كالمسكوت عنه ; لأنه لا يستحق شيئا من غير بذر ولا عمل ، والمسكوت عنه يكون لصاحب البذر ، وإن كان البذر من العامل والمسألة بحالها فالعقد فاسد ; لأن اشتراط العمل على رب الأرض كاشتراط البقر عليه ، وذلك مفسد للعقد ، وإن كان شرط ثلث الخارج لعبد العامل ، فإن كان البذر من قبل العامل ولا دين على العبد فالعقد صحيح ولرب الأرض ثلث الخارج ، والباقي للعامل ; لأن اشتراط العبد عليه كاشتراط البقر ، والمشروط لعبده إن لم يكن عليه دين كالمشروط له ، وإن شرط لعبده ثلث الخارج ولم يشرط على عبده عملا فإن كان على العبد دين ففي قول أبي يوسف ومحمد هذا جائز والمشروط للعبد يكون للعامل ; لأنه يملك كسب عبده المديون ، وعند أبي حنيفة كذلك الجواب ; لأن [ ص: 22 ] المشروط للعبد كالمسكوت عنه إذا لم يشرط عليه العمل فهو للعامل ; لأنه صاحب البذر بخلاف ما إذا شرط عليه العمل ، والعبد مديون ; لأن العبد منه كأجنبي فكأنه شرط عمل أجنبي آخر مع صاحب البذر ، على أن يكون له ثلث الخارج وذلك مفسد للعقد في حصة العامل الآخر على ما بينه في آخر الكتاب ، وإن كان البذر من عند صاحب الأرض واشترط أن يعمل هو مع العامل لم يجز ; لأن هذا الشرط يعدم التخلية بين العامل وبين الأرض والبذر ، وقد بينا نظيره في المضاربة أنه إذا شرط عمل رب المال مع المضارب يفسد العقد لانعدام التخلية والحاكم - رحمه الله - في المختصر ذكر في جملة ما يكون فاسدا من المزارعة على قولهما يجمع بين الرجل وبين الأرض ، ومراده أن يكون البقر والبذر مشروطا على أحدهما ، والعمل والأرض مشروطا على الآخر وهذا فاسد ، إلا في رواية عن أبي يوسف يجوز هذا بالقياس على المضاربة ; لأن البذر في المزارعة بمنزلة رأس المال في المضاربة ، ويجوز في المضاربة دفع رأس المال إلى العامل ، فكذلك يجوز في المزارعة دفع البذر مزارعة إلى صاحب الأرض والعمل . فأما في ظاهر الرواية فصاحب البذر مستأجر للأرض ولا بد من التخلية بين المستأجر وبين ما استأجر في عقد الإجارة وتنعدم التخلية هنا ; لأن الأرض تكون في يد العامل فلهذا فسد العقد ، ثم في كل موضع صار الريع لصاحب البذر من قبل فساد المزارعة ، والأرض له لم يتصدق بشيء ; لأنه لا يتمكن في الخارج خبث فإن الخارج نماء البذر بقوة الأرض ، والأرض ملكه والبذر ملكه وإذا لم تكن الأرض له تصدق بالفضل ; لأنه تمكن خبث في الخارج فإن الخارج إنما يحصل بقوة الأرض ، وبهذا جعل بعض مشايخنا الخارج لصاحب الأرض عند فساد العقد ، ومنفعة الأرض إنما سلمت له بالعقد الفاسد لا بملكه رقبة الأرض فيتصدق لذلك بالفضل ، ونعني بالفضل أنه يرفع من الخارج مقدار بذره وما غرم فيه من المؤن والأجر ، ويتصدق بالفضل وإن كان هو العامل لا يرفع منه أجر مثله ; لأن منافعه لا تتقوم بدون العقد ، ولا عقد على منافعه إذا كان البذر من قبله ، فلهذا لا يرفع أجر مثل نفسه من الخارج ، ولكن يتصدق بالفضل ، وما يشترط للبقر من الخارج فهو كالمشروط لصاحب البقر ; لأن البقر ليس من أهل الاستحقاق لنفسه فالمشروط له كالمشروط لصاحبه ، وما يشترط للمساكين للخارج فهو لصاحب البذر ; لأن المساكين ليس من جهتهم أرض ولا عمل ولا بذر ، واستحقاق الخارج في المزارعة لا يكون إلا بأحد هذه الأشياء فكان المشروط لهم كالمسكوت عنه ، فيكون لصاحب البذر ; لأن استحقاقه بملك [ ص: 23 ] البذر لا يشترط ، والأجرة تستحق عليه بالشرط فلا يستحق إلا مقدار ما شرط له ، وإذا لم يسم لصاحب البذر وسمي ما للآخر جاز ; لأن من لا بذر من قبله إنما يستحق بالشرط فأما صاحب البذر فيستحق بملكه البذر ، فلا ينعدم استحقاقه بترك البيان في نصيبه ، وإن سمى نصيب صاحب البذر ولم يسم ما للآخر ففي القياس هذا لا يجوز ; لأنهم ذكروا ما لا حاجة بهم إلى ذكره وتركوا ما يحتاج إليه لصحة العقد ومن لا بذر من قبله يستحق بالشرط فبدون الشرط لا يستحق شيئا ، ولكنه استحسن فقال الخارج مشترك بينهما ، والتنصيص على نصيب أحدهما يكون بيان أن الباقي للآخر قال الله سبحانه وتعالى { وورثه أبواه فلأمه الثلث } معناه وللأب ما بقي فكأنه قال صاحب البذر : على أن لي ثلثي الخارج ولك الثلث

التالي السابق


الخدمات العلمية