الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن إنسانا أتاه ، وفي بطنه صفراء ، فقال وصف لي السكر ، فقال عبد الله : إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ، وبه نأخذ ، فنقول : كل شراب محرم ، فلا يباح شربه للتداوي حتى روي عن محمد أن رجلا أتى يستأذنه في شرب الخمر للتداوي قال إن كان في بطنك صفراء ، فعليك بماء السكر ، وإن كان بك رطوبة ، فعليك بماء العسل ، فهو أنفع لك ، ففي هذا إشارة إلى أنه لا تتحقق الضرورة في الإصابة من الحرام ، فإنه يوجد من جنسه ما يكون حلالا ، والمقصود يحصل به ، وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم { : إن الله لم يجعل في رجس شفاء } ، ولم يرد به نفي الشفاء أصلا ، فقد يشاهد ذلك ، ولا يجوز أن يقع الخلف في خبر الشرع عليه الصلاة والسلام ، ولكن المراد أنه لم يعين رجسا للشفاء على وجه لا يوجد من الحلال ما يعمل عمله ، أو يكون [ ص: 10 ] أقوى منه ، وعن بريدة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نهيتكم عن ثلاث : عن زيارة القبور ، فزوروها ، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه ، ولا تقولوا هجرا ، وعن لحم الأضاحي أن تمسكوه ، فوق ثلاثة أيام ، فأمسكوه ما بدا لكم ، وتزودوا ، فإنما نهيتكم ليتسع به موسركم على معسركم ، وعن النبيذ في الدباء ، والحنتم ، والمزفت ، فاشربوا في كل ظرف ، فإن الظرف لا يحل شيئا ، ولا يحرمه ، ولا تشربوا مسكرا } ، وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه قال { ، وعن الشرب في الدباء ، والحنتم ، والنقير ، والمزفت ، فاشربوا في الظروف ، ولا تشربوا مسكرا } ، وهذا اللفظ رواه أبو بردة بن نيار أيضا ، وفي الحديث دليل نسخ السنة بالسنة ، فقد أذن في هذه الأشياء الثلاثة بعد ما كان نهي عنها ، وبالإذن ينسخ حكم النهي ، وقيل : المراد النهي عن زيارة قبور المشركين ، فإنهم ما منعوا عن زيارة قبور المسلمين قط .

( ألا ترى ) أنه عليه الصلاة والسلام قال قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه ، وكانت قد ماتت مشركة ، وروي أنه زار قبرها في أربعمائة فارس فوقفوا بالبعد ، ودنا هو من قبرها ، فبكى حتى سمع نشيجه ، وقيل : إنما نهوا عن زيارة القبور في الابتداء على الإطلاق لما كان من عادة أهل الجاهلية أنهم كانوا يندبون الموتى عند قبورهم ، وربما يتكلمون بما هو كذب ، أو محال ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام { : ولا تقولوا هجرا } أي لغوا من الكلام ، ففيه بيان أن الممنوع هو التكلم باللغو ، فذلك موضع ينبغي للمرء أن يتعظ به ، ويتأمل في حال نفسه ، وهذا قائم لم ينسخ إلا أنه في الابتداء نهاهم عن زيارة القبور لتحقيق الزجر عن الهجر من الكلام ، ثم أذن لهم في الزيارة بشرط أن لا يقولوا هجرا ، ومن العلماء من يقول : الإذن للرجال دون النساء ، والنساء يمنعن من الخروج إلى المقابر لما روي { أن فاطمة رضي الله عنها خرجت في تعزية لبعض الأنصار ، فلما رجعت قال لها رسول الله : صلى الله عليه وسلم لعلك أتيت المقابر قالت لا ، فقال عليه الصلاة والسلام لو أتيت ما فارقت جدتك يوم القيامة } أي كنت معها في النار ، والأصح عندنا أن الرخصة ثابتة في حق الرجال والنساء جميعا .

فقد روي أن عائشة رضي الله عنها كانت تزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت ، وأنها لما خرجت حاجة زارت قبر أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه ، وأنشدت عند القبر قول القائل :

وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا


، فلما تفرقنا كأني ومالكا     لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

، والنهي عن إمساك لحوم الأضاحي ، فوق ثلاثة أيام قد انتسخ بقوله عليه الصلاة والسلام [ ص: 11 ] { فامسكوا ما بدا لكم وتزودوا } ، فإن القربة تنادي بإراقة الدم ، والتدبير في اللحم بعد ذلك من الأكل ، والإمساك ، والإطعام إلى صاحبه ، إلا أنه للضيق والشدة في الابتداء نهاهم عن الإمساك على وجه النظر والشفقة ليتبع موسرهم على معسرهم ، ولما انعدم ذلك التضييق أذن لهم في الإمساك ، فأما النهي عن الشرب في الأواني ، فقد كان في الابتداء نهاهم عن الشرب في الأواني المتثلمة تحقيقا للزجر عن العادة المألوفة ، ولهذا أمر بكسر الدنان ، وشق الروايا ، فلما تم انزجارهم عن ذلك أذن لهم في الشرب في الأواني ، وبين لهم أن المحرم شرب المسكر ، وأن الظرف لا يحل شيئا ، ولا يحرمه ، وقد بينا أن المسكر ما يتعقبه السكر ، وهو الكأس الأخير . .

التالي السابق


الخدمات العلمية