الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو أكرهت امرأة بوعيد تلف ، أو حبس حتى تقبل من زوجها تطليقة على ألف درهم فقبلت ذلك منه ، وقد دخل بها ، ومهرها الذي تزوجها عليه أربعة آلاف أو خمسمائة ، فالطلاق رجعي ، ولا شيء عليه من المال ; لأن التزام البدل يعتمد تمام الرضا ، وبالإكراه ينعدم الرضا سواء كان الإكراه بحبس ، أو بقتل ، ولكن وقوع الطلاق يعتمد وجود القبول لا وجود المقبول .

( ألا ترى ) أنه لو طلق امرأته الصغيرة على مال فقبلت وقع الطلاق ، ولم يجب المال ، وبسبب الإكراه لا ينعدم القبول ، فلهذا كان الطلاق واقعا ، ثم الواقع بصريح اللفظ يكون رجعيا إذا لم يجب العوض بمقابلته ، وهنا لا عوض عليه ، فكان الطلاق رجعيا ، وقد ذكر في الجامع الصغير إذا شرطت الخيار لنفسها ثلاثة أيام في الطلاق بمال عند أبي حنيفة لا يقع الطلاق ما لم يسقط الخيار وعندهما الطلاق واقع ، والمال لازم ، وكذلك لو هزلت بقبول الطلاق بمال ، واتفقا على ذلك عند أبي حنيفة لا يقع الطلاق ما لم يرض بالتزام المال .

وعندهما الطلاق واقع ، والمال واجب ، فبالكل حاجة إلى الفرق بين مسألة الإكراه ، ومسألة الخيار ، والهزل ، فأما أبو حنيفة رحمه الله ، فقال الإكراه لا يعدم [ ص: 87 ] الاختيار في السبب ، والحكم ، وإنما يعدم الرضا بالحكم ، فلوجود الاختيار في السبب ، والحكم تم القبول ، ووقع الطلاق ، ولانعدام الرضا لا يجب المال ، فكأن المال لم يذكر أصلا ، فأما خيار الشرط ، فلانعدام الاختيار ، والرضا بالسبب ، وبعدم الاختيار ، والرضا بالحكم يتوقف الحكم ، وهو وقوع الطلاق ، ووجوب المال على وجود الاختيار ، والرضا به ، وكذلك الهزل لا ينافي الاختيار ، والرضا بالسبب ، وإنما يعدم الرضا ، والاختيار بالحكم ، فتوقف الحكم لانعدام الاختيار في حقه ، وصح التزام المال به موقوفا على أن يلزمه عند تمام الرضا به ، وهما يقولان : الإكراه يعدم الرضا بالحكم ، ولا يعدم الاختيار في السبب ، والحكم جميعا ، فيثبت الحكم ، وهو الطلاق ، ولا يجب المال لانعدام الرضا به ، فكأنه لم يذكر ، فأما الهزل ، وشرط الخيار ، فلا يعدم الرضا بالسبب ، والحكم لا ينفصل عن السبب ، فالرضا بالسبب فيهما يكون رضا بالحكم فيقع الطلاق ، ويجب المال ; لأن المال صار تبعا للطلاق في الحكم ، وفي الإكراه انعدم الرضا بالسبب ، فلا يثبت ما يعتمد ثبوته الرضا ، وهو المال ، ويثبت من المال ما لا يعتمد ثبوته الرضا ، وهو الطلاق ، فإن قالت بعد ذلك قد رضيت بتلك التطليقة بذلك المال جاز ، ولزمها المال ، وتكون التطليقة بائنة في قول أبي حنيفة ، وقال محمد إجازتها باطلة ، وهي تطليقة رجعية ، ولم يذكر قول أبي يوسف ، فقيل قوله كقول محمد رحمهما الله .

والأصح أن قوله كقول أبي حنيفة رحمه الله ، فمن جعل قوله كقول محمد قال : المسألة فرع لما بينا في كتاب الطلاق إذا قال لامرأته : أنت طالق كيف شئت عند أبي حنيفة تقع تطليقة رجعية ، ولها الخيار في جعلها بائنة وعندهما لا يقع عليها شيء ما لم تشأ ، فمن أصله أنه يقع أصل الطلاق ، ويبقى لها المشيئة في الصفة فهنا أيضا وقع أصل الطلاق بقبولها ، وبقي لها المشيئة في صفته ، فإذا التزمت المال طوعا صارت تطليقة بائنة وعندهما لا يجوز أن يبقى لها مشيئة بعد وقوع أصل الطلاق بقبولها ، فلا رأي لها بعد ذلك في التزام المال لتغير صفة تلك التطليقة ، ومن قال إن قول أبي يوسف كقول أبي حنيفة جعل المسألة ، فرعا ; لما بيناه في كتاب الدعوى أن من طلق امرأته تطليقة رجعية ، ثم قال : جعلتها بائنة عند أبي حنيفة وأبي يوسف تصير بائنا ، وعند محمد لا تصير بائنا ، فلما كان من أصلهما أن للزوج أن يجعل الواقع بصفة الرجعية بائنا ، فكذلك للمرأة ذلك بالتزام المال ، وعند محمد لما لم يكن للزوج ولاية جعل التطليقة الرجعية بائنة ، فكذلك لا يكون لها ذلك بالتزام المال ، ولو كان مكان التطليقة خلع بألف درهم كان الطلاق بائنا ، ولا شيء عليها ; لأن الواقع بلفظ الخلع بائن من غير اعتبار وجوب المال ، فإن الخلع مشتق من الخلع ، والانتزاع [ ص: 88 ] ففي اللفظ ما يوجب البينونة ، ولهذا لو خلع الصغيرة على مال ، وقبلت كان الواقع بائنا بخلاف لفظ صريح الطلاق ، وكذلك الصلح عن دم العمد إذا أكره القاتل بقتل ، أو حبس على أن يصالح الولي على أكثر من الدية ، أو أقل منها ، فصالحه بطل الدم لوجود القبول مع الإكراه ، وليس على القاتل من المال شيء ; لأن التزام المال يعتمد تمام الرضا ، وينعدم بالإكراه .

التالي السابق


الخدمات العلمية