الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولا يقبل كتاب القاضي في شيء من الحدود ، والقصاص ; لأن ذلك مما يندرئ بالشبهات .

[ ص: 98 ] الشرع ما أمرنا بالانتظار إضرارا بالمضروب فلو لم يقبل قوله فيما يظهر في ذلك المحل أنه حادث بتلك الضربة لرجع ذلك إلى الإضرار به ، ولو شج رجلا موضحة فصارت منقلة فقال المضروب : صارت منقلة من ذلك وقال : الضارب حدثت فيها من غير فعل أحد فالقول قول الضارب بخلاف السن على طريقة الاستحسان ; لأن هاهنا فعل الضارب إنما عمل في اللحم دون العظم ، والمنقلة ما يكون عاملا في العظم فالضارب ينكر فعله في هذا المحل ، والظاهر يشهد له ; لأن الفعل في المحل لا يؤثر فعلا آخر إلا نادرا .

فأما في الأول فإن ما اسودت السن التي حلت الضربة بها فالظاهر شاهد للمضروب هناك ، وإذا قلع الرجل سن رجل أو صبي ثم نبتت فلا شيء على القالع ; لأنه لم يبق لفعله أثر ، وعن أبي يوسف رحمه الله قال : يلزمه حكومة عدل باعتبار الألم الذي لحقه ، وكذلك الظفر إذا قلعه فنبت فليس فيه حكومة عدل ، ولا أرش ; لأنه لم يبق فيه أثر ، وإن نبتت السن سوداء ففيها أرش كامل ; لأن الثابتة قائمة مقام المقلوعة فكأن الأولى باقية قد اسودت ، وإن نبت الظفر أغور ومتغيرا ففيه حكومة عدل بمنزلة الأول لو أغور بالضربة أو تغير ; وهذا لأنه ليس في الظفر منفعة مقصودة ، وإنما يكون فيه مجرد الجمال فإذا اسود أو تغير ينتقص معنى الجمال ، ولا يكون السواد في الظفر دليل موت الظفر .

( ألا ترى ) أن في أنواع بني آدم من يكون ظفرهم أسود خلقة حتى قالوا : إذا كان المضروب من ذلك النوع ينبغي أن لا يجب شيء ; لأنه لا ينتقص في حقه معنى الجمال قال : وإذا قلع الرجل سن رجل خطأ فأخذ المقلوع سنه فأثبتها مكانها فثبتت فعلى القالع أرشها ; لأنها ، وإن ثبتت لا تصير كما كانت .

( ألا ترى ) أنها لا تتصل بعروقها ، ولهذا جعل محمد رحمه الله تلك السن كالميتة حتى قال : إذا كانت أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته معها ، وفرق أبو يوسف رحمه الله بين ما إذا أثبت في موضعها سن نفسه أو سن غيره في حكم جواز الصلاة ، وقال : بينهما فرق ، ولا يحضرني ، وكذلك الأذن إذا أعادها إلى مكانها ; لأنها لا تعود إلى ما كانت عليه في الأصل ، وإن التصقت فأما إذا ابيضت العين من ضربة رجل ثم ذهب البياض منها فأبصر فليس على الضارب شيء ; لأنه عاد إلى ما كان عليه في الأصل ، ولم يبق إلا الألم الذي لحقه بالضربة وباعتبارها لا يجب شيء ، وإنما يجب باعتبار الأثر في المحل ، ولم يبق ، ولو شجه موضحة خطأ فسقط منها شعر رأسه كله فلم ينبت فعلى عاقلته الدية تامة لإفساد المنبت ، ويدخل أرش الشجة في ذلك عندنا ، وقال زفر رحمه الله : لا يدخل ; لأن الشجة موجبة للضمان بنفسها ، وكذلك إفساد منبت الشعر جناية على حدة ، ولا [ ص: 99 ] تدخل في أرش الجنايات فيما دون النفس ، ولكنا نقول وجوب أرش الموضحة باعتبار ذهاب الشعر دليل أنه لو نبت الشعر على ذلك الموضع واستوى كما كان لا يجب شيء ، وإذا وجب كمال بدل النفس باعتبار ذهاب الشعر لا يجب ما دونه باعتباره أيضا فإن كان ذهب من الشعر بعضه فعلى الجاني الأكثر من أرش الشعر ومن أرش الشجة ، ويدخل الأقل في ذلك ; لأن إيجاب الأكثر يتحقق باعتبار السبب معنى كما بينا ، وكذلك إن كان في الحاجب فإن الموضحة في الوجه ، والرأس سواء ، والآمة لا تكون إلا في الرأس أو الموضع الذي يتصل بالدماغ من الوجه ، والجائفة لا تكون إلا في الظهر ، والبطن ، والجنب أو في الموضع الذي يتصل بالجوف حتى لو جرحه بين ذكره ودبره جراحة واصلة إلى جوفه تكون جائفة فأما في الفخذ ، والعضد فلا تتحقق الجائفة ، وكذلك في العنق .

وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله قال إذا وصلت الجراحة إلى موضع يحصل الفطر للصائم بوصول المفطر إليه تكون جائفة ، وإن كان لا يحصل له الفطر بوصول المفطر إليه لا تكون جائفة ، ولو شجه فذهب من ذلك عقله فإنه يلزمه الدية باعتبار ذهاب العقل ويدخل فيه أرش الموضحة عندنا ، وعلى قول الحسن رضي الله عنه لا يدخل لاختلاف محل الجناية فإن محل الموضحة غير محل العقل بخلاف الشعر مع الموضحة ، ولكنا نقول : ذهاب العقل في معنى تبديل النفس ، وإلحاقه بالبهائم فيكون بمنزلة الموت ولو شجه موضحة فمات من ذلك لزمه كمال الدية ودخل فيه أرش الشجة .

فأما إذا ذهب من الشجة سمعه أو بصره أو كلامه يلزمه الدية باعتبار هذه الأشياء ، ولا يدخل أرش الشجة في ذلك إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله قال : وفي السمع ، والكلام يدخل أرش الشجة في الدية ، وفي البصر لا يدخل ; لأن البصر ظاهر كالموضحة فقد يباين المحل حقيقة وحكما فأما السمع والكلام فمعنى باطن بمنزلة العقل فكما يدخل أرش الموضحة في الدية الواجبة بإذهاب العقل فكذلك فيما تجب بإذهاب السمع والكلام ، ولكنا نقول : محل السمع غير محل الشجة ، وكذلك محل الكلام وبتفويتهما لا تتبدل النفس ، وإنما تجب الدية لتفويت منفعة مقصودة منهما فيكون بمنزلة ذهاب البصر بالشجة ، فإن ذهب بالشجة العقل ، والسمع ، والكلام ، والبصر فإنه يجب عليه أربع ديات .

وقد روينا عن عمر رضي الله عنه أنه قضى على رجل بأربع ديات ، والمجني عليه حي فإن قيل : كيف يستقيم هذا ، ولو مات من الشجة لا يلزمه إلا دية واحدة ؟ وبموته فاتت هذه المنافع ثم لم يلزمه إلا دية واحدة فبفوات هذه [ ص: 100 ] قد ذكروا أكثر الحدود ، وإقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع ثم مقدار الطول بذكر الحدين صار معلوما ، ومقدار العرض بذكر أحد الحدين بعد إعلام الطول يصير معلوما أيضا ، وقد تكون الأرض مثلثة لها ثلاثة حدود فإذا كانت بهذه الصفة فلا خلاف أنه يكتفى بذكر الحدود الثلاثة ، وهذا بخلاف ما إذا غلطوا في ذكر أحد الحدود ; لأن المشهود به بما ذكروا صار شيئا آخر ، والفرق ظاهر بين المسكوت عنه ، وما إذا خالفوا في ذكره كما إذا ادعى شراء شيء بثمن منقود فإن الشهادة على ذلك تقبل ، وإن سكت الشهود عن ذكر جنس الثمن ، ولو ذكروا ذلك واختلفوا فيه لم تقبل الشهادة فهذا مثله ، وإن لم يحدوها ونسبوها إلى اسم معروف لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن التعريف بالشهرة كالتعريف بذكر الحدود أو أبلغ ، وذكر الحدود في العقارات كذكر الاسم ، والنسب في الآدمي ثم هناك الشهرة تغني عن ذكر الاسم ، والنسب فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول : بالشهرة يصير موضع الأصل معلوما فأما مقدار المشهود به لا يصير معلوما إلا بذكر الحدود ، وجهالة المقدار تمنع من القضاء ، ومعنى هذا أن الدار المشهودة قد يزاد فيها وينتقص منها ، ولا تتغير الشهرة بذلك بخلاف الآدمي فإنه لا يزاد فيه ، ولا ينقص منه .

والحاجة هناك إلى إعلام أصله بالشهرة يصير معلوما ، ولو جاء بكتاب قاض أن لفلان على فلان السدي عبد فلان بن فلان الفلاني كذا كذا أجرته ; لأن المملوك يعرف بالنسبة إلى مالكه فالنسبة إلى الأب والقبيلة تتعطل بالرق ، وإنما ينسب إلى مالكه .

( ألا ترى ) أن الولاية على المملوك لمالكه دون أبيه فإذا نسبه إلى مالك معروف بالشهرة أو بذكر الاسم والنسب فقد تم تعريفه بذلك ، وكذلك إن نسب العبد إلى عمل أو تجارة يعرف بها فالتعريف في الحر يحصل بذلك في ظاهر الرواية ، فكذلك في العبد ، وإن جاء بالكتاب أن العبد له لم يجز ذلك ، وهما في القياس سواء ، وقد بينا هذه المسألة في كتاب الآبق ما يقبل فيه كتاب القاضي وما لا يقبل .

( قال : ) وقال محمد رحمه الله : لا يجوز عندنا كتاب القضاة في شيء بعينه لا في العقار فإنه لا يتحول عن موضعه فأما فيما سوى ذلك من الأعيان لا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي ; لأن الإشارة إلى عينه عند الدعوى والشهادة شرط ولهذا لا بد من إحضاره بمجلس القضاء ، وإذا أتى كتاب القاضي إلى القاضي وليس عليه عنوان وهو مختوم بخاتمه فشهدت الشهود أنه كتابه إليه وخاتمه فإنه يفتحه ; لأنه لو كان على ظهره عنوان فيه لا يصير معلوما محكوما أنه كتاب القاضي إليه ، وإنما يصير معلوما [ ص: 101 ] المحلان من نفس واحدة في معنى نفسين فكما أنه إذا قطع يد إنسان فأصاب السكين يد آخر فقطع يده يجب الأرش للثاني ، والقصاص للأول فهذا مثله ، وأبو حنيفة رحمه الله يقول : هذه جناية وسرايتها .

وقد تعذر إيجاب القصاص باعتبار سرايتها فلا يجب القصاص باعتبار أصلها كما لو قطع مفصلا فشلت الأصبع ; وهذا لأن السراية أثر الجناية ، وهو مع أصل الجناية في حكم فعل واحد ، فالدليل على أنه سرايتان أن فعله أثر في نفس واحدة ، والسراية عبارة عن آلام تتعاقب من الجناية على البدن ، وذلك يتحقق في نفس واحدة في موضعين منهما كما يتحقق في الطرف مع أصل النفس إذا مات من الجناية بخلاف النفسين فإن الفعل في النفس الثانية مباشرة على حدة ليس بسراية الجناية الأولى إذ لا تتصور السراية من نفس إلى نفس فلا بد من أن يجعل ذلك في حكم فعل على حدة ، وهو خطأ ثم يعتبر حكم كل فعل بنفسه ، والدليل عليه أن منفعة كل أصبع تتصل بمنفعة الأخرى كما أن منفعة الأصابع تتصل بمنفعة الكف ، وكذلك هذا في اليدين من نفس واحدة بخلاف النفسين فلا اتصال لمنفعة إحداهما بالأخرى ، وذكر في الجامع الصغير أنه لو شجه موضحة عمدا فذهب من ذلك بصره فلا قصاص عليه في الموضحة عند أبي حنيفة رحمه الله ولكن عليه الأرش فيهما ونقل عن أبي يوسف ومحمد أن عليه القصاص في الموضحة ، والدية في البصر وهو نظير ما بينا .

وقد روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله في هذا الفصل أنه يجب القصاص فيهما ; لأن إذهاب البصر عمدا يوجب القصاص ، وقد بينا أن سراية الفعل لا تخالف أصل الفعل في الصفة بخلاف الشلل فإن الشلل غير موجب للقصاص فعلى هذه الرواية عن محمد لو قطع أصبعا منه عمدا فقطعت أصبع أخرى يجب القصاص فيها أيضا بخلاف ما إذا شلت أخرى ; لأن في تفويت أصل الأصبعين عمدا القصاص ، والسراية بصفة أصل الفعل ، وليس في تفويت المنفعة بالشلل قصاص فمن هذا الوجه يقع الفرق ولو شجه موضحة فصارت منقلة أو كسر بعض سنه فاسود ما بقي أو قطع الكف فشل الساعد فلا قصاص في شيء من ذلك ; لأن محل السراية هاهنا متصل بمحل الجناية فكان الفعل واحدا حقيقة وحكما ، وباعتبار ما له يتعذر إيجاب القصاص إذ لا قصاص في كسر العظم وسواد السن ، والشلل ، وقيل : يلزمه الأرش في جميع ذلك ، وإذا شجه منقلة عمدا ، وهو من أهل الإبل غلظ عليه في الأسنان فجعل عليه عشر من الإبل أرباعا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف .

وكذلك على هذا القياس في الآمة وغيرها اعتبارا للجزء بالكل فإن صفة التغليظ [ ص: 102 ] ثابتة في جميع الدية باعتبار صفة العمدية فثبت في أبعاضها ، وإن كان ذلك خطأ وجب الأرش أخماسا اعتبارا بالكل إلا أن في العمد تجب في ماله ، وفي الخطأ يجب على عاقلته إذا بلغ الواجب أرش الموضحة ، وكذلك ينبغي على طريقة القياس منها دون أرش الموضحة أن يكون على العاقلة ، وبالقياس أخذ الشافعي رضي الله عنه ; لأنه اعتبر الجزء بالكل ، واعتبر ضمان إتلاف النفس بضمان إتلاف المال فإنه لا فرق فيه بين القليل والكثير في حق من يجب عليه ، ولكنا استحسنا فجعلنا ما دون أرش الموضحة عليه في ماله لما روينا من الأثر فيه ، وإذا كان القاتل خطأ من أهل الإبل فصالح على أكثر من عشرة آلاف درهم أو أكثر من ألف دينار نقدا أو نسيئة لم يجز أن يعطي أكثر من الدية ; لأن مقدار الواجب من الدية ثابت بالنص فلا تجوز الزيادة عليه ; لما في الصلح على الزيادة من معنى الربا وبأن كان القاتل من أهل الإبل لا تخرج الدراهم والدنانير من أن تكون أصلا في الدية في حقه ، وعند الصلح على الدراهم يجعل كأنهما عينا الدراهم أولا ثم صالحه على أكثر من ذلك فيكون ربا ، وكذلك لو كان من أهل الورق فصالح على أكثر من ألف دينار أو أكثر من مائة من الإبل فالصلح باطل ; لأن عند الاتفاق على أحد الأصناف يتعين ذلك الصنف الواجب منه مقدرا شرعا ، فالزيادة عليه تكون ربا ، فأما في العمد الموجب للقود إذا أوقع الصلح على أكثر من الدية يجوز عندنا ، وفي أحد قولي الشافعي لا يجوز بناء على ما تقدم أن في أحد قوليه الواجب في العمد أحد شيئين يتعين ذلك باختيار الولي ، وإذا اختار الدية ، وهي مقدرة شرعا لا تجوز الزيادة عليها بطريق الصلح .

وعندنا الواجب هو القود لا غير فالمال الذي يلتزمه يكون عوضا عن القود ، ولا ربا بين ما ليس بمال وبين ما هو مال ، والدليل على جواز هذا الصلح ما روي أن فارسا من فرسان المسلمين قتل رجلا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فلما خرج ليقتل رأت الصحابة الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا وصالحوا أولياء القتيل على ديتين دية يعطيها القاتل ودية يتبرع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدائها فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو صالحه في الخطأ أو العمد على خمسين من الإبل جاز أما في العمد فلا يشكل ، وفي الخطأ ; لأنه أسقط بعض الواجب .

ولو أسقط الكل بالعفو لجاز ، فكذلك إذا أسقط البعض ، وكذلك لو صالحه على خمسمائة دينار قبل أن يقضي عليه بالدراهم ، وقال : إنما صالحتك عن الدية على ذلك فهو جائز بطريق الإسقاط كأنهما عينا الدنانير ثم أسقط عنه النصف ورضي بالنصف [ ص: 103 ] ويكون الباقي مؤجلا في ثلاث سنين سواء ذكر الأجل أو لم يذكره أما إذا لم يذكر الأجل فلأن هذا الصلح إبراء عن البعض ، وليس فيه تعرض لما بقي فيبقى ما بقي على الوجه الذي كان عليه الكل في الابتداء ، وهو أنه مؤجل في ثلاث سنين ، وكذلك إن شرط الأجل فيما بقي من ثلاث سنين ; لأن هذا الشرط يقرر مقتضى مطلق العقد ، ولا يقال هذا في معنى نسيئة بنسيئة ; لأن ذلك عند تمكن المبادلة ، ولا مبادلة هاهنا إنما هو إسقاط نصف الواجب فقط ، فأما إذا كان من أهل الإبل فقضى عليه بالإبل فصالحه من ذلك على شيء من العروض أو الحيوان بعينه بعد أن لا يكون مما فرض عليه الدية كان جائزا ، وإن كان أكثر من الدية أضعافا ويأخذه حالا ; لأن هذا استبدال بدين لا يستحق قبضه في المجلس ، ولا هو في حكم المبيع ، فيكون ذلك صحيحا وبنفس الاستبدال يملكه عينا ، والأجل في العين لا يتحقق ، وكذلك لو كان من أهل الورق أو الذهب فقضى عليه بشيء من ذلك ثم صالحه على عين من جنس آخر جاز ، وإن جعل لما وقع عليه الصلح أجلا بأن صالحه على طعام موصوف في الذمة مؤجل لا يجوز ; لأنه بدل عما قضى عليه به من الدراهم أو الدنانير ، فيكون هذا شراء دين بدين ، وذلك حرام ، وكذلك إن قضى عليه بدراهم ثم صالحه على دنانير بعينها أكثر من ألف دينار أو أقل من ألف دينار يجوز بعد أن يقبض ذلك في المجلس ، وإن صالحه على دنانير مؤجلة لا يجوز ; لأنه صرف ولأنه دين بدين ، وإذا أقر الرجل أنه قتل رجلا خطأ ، وادعى وليه العمد فله الدية في ماله استحسانا ، وفي القياس لا شيء له قول زفر رحمه الله .

وجه القياس : أن الولي ادعى عليه القود وهو منكر ، وهو أقر له بالمال ، وقد كذبه الولي في ذلك فلا يجب شيء .

( ألا ترى ) أنه لو أقر بالعمد وادعى الولي الخطأ لم يجب شيء فكذلك هاهنا وجه الاستحسان أن الولي يتمكن من أخذ المال الذي أقر له به القاتل مع إصراره على دعواه بأن يقول حقي في القصاص ، ولكنه طلب مني أن آخذ المال عوضا عن القصاص ، وذلك جائز فعرفنا أنه ما صار مكذبا له فيما أقر به فأما إذا ادعى الولي الخطأ ، وأقر القاتل بالعمد فإن الولي لا يمكنه أن يأخذ المال ; لأن القاتل يجحد موجب ذلك ، ولا يمكنه أن يأخذ القصاص مع إصراره على الدعوى ; لأن استيفاء القصاص عوض عن المال .

يوضح الفرق أن الولي حين ادعى العمد فقد ادعى أصل القتل ، والصفة ، والمقر بالخطأ صدقه فيما ادعى من أصل القتل وجحد ما ادعى من صفة العمدية فلا يعتبر تصديقه في أصل القتل بعد ما كذبه في الصفة ; لأن موجب الأصل الذي صدقه فيه يخالف موجب الأصل بالصفة التي [ ص: 104 ] كذبه فيها ، وكذلك هذا الحكم فيما دون النفس مما يجب في العمد منه القصاص ، وإذا قتل النائم إنسانا بأن سقط عليه أو كان بيده شيء فضربه وهو نائم فعلى عاقلته الدية وعليه الكفارة قال : وهذا خطأ وقد بينا أنه في معنى الخطأ في الحكم دون الخطأ حقيقة فإن النائم ليس من أهل القصد أصلا إلا أنه أوجب عليه الكفارة وجعله محروما من الميراث ; لتوهم أن يكون تناوم ، ولم يكن نائما حقيقة ، وهذا معتبر في حرمان الإرث ، وأما الكفارة فلتركه التحرز في موضع يتوهم أن يصير قاتلا لإنسان في نومه بهذه الطريقة وقد بينا أن الكفارة في الخطأ إنما وجبت لترك التحرز والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية