الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ولو كان أوصى إلى رجلين فدفعا إلى رجل دينا وشهدا أنه له على الميت ، ثم لحق الميت دين بعد ذلك بشهادة غيرهما فهما ضامنان لجميع ما دفعا ; لأن شهادتهما بالدين على الميت غير مقبولة في هذه الحالة لتمكن التهمة فيها فقد صارا ضامنين لما دفعا إلى الطالب من غير حجة ، وإنما قصدا بشهادتهما إسقاط الضمان عن أنفسهما فإذا بطلت شهادتهما بذلك بقي دفعهما المال المدعى جناية في حق من أثبت دينه بشهادة غيرهما فكانا ضامنين لجميع ما دفعا .

ولو لم يكونا دفعا حتى شهدا عند القاضي فقضى القاضي بالدين الأول فهما في ذلك كغيرهما من الأجانب وإنما دفعا بعد ثبوت الدين بشهادتهما وأمرهما بالدفع ، ثم قامت بينة على دين بعد ذلك لم يكن عليهما ضمان ; لأنه لا تهمة في شهادتهما بالدين الأول فهما في ذلك كغيرهما من الأجانب ، وإنما دفعا بعد ثبوت الدين بأمر القاضي فلا ضمان عليهما ، ولكن الغريم يتبع المقضي حتى يأخذ منه حصته ; لأنه تبين أن المقبوض كان مشغولا بحقهما .

قال : ولو شهد وارثان بدين على الميت جازت شهادتهما ، وهي كشهادة غيرهما ; لأنه لا منفعة لهما في هذه الشهادة بل عليهما فيها ضرر ، والوصي مصدق في كفن الميت فيما يكفن به مثله ; لأنه مسلط على ذلك أمين منصوب له .

ولو اشترى الوصي الكفن من ماله ونقد له الثمن كان له أن يرجع في مال الميت ; لأنه كفن ومعنى هذا أن الكفن لا يمكن تأخيره وقد لا يكون مال الميت حاضرا يتيسر الأداء منه في الحال فيحتاج الوصي إلى أن يؤدي ذلك من مال نفسه ليرجع به من مال الميت ، وكذلك الوارث قد يحتاج إلى ذلك فلا يكون متبرعا فيما أداه من مال [ ص: 32 ] نفسه وكذلك لو قضى الوصي أو الوارث من ماله دينا كان على الميت بشهود فله أن يرجع به في مال الميت ; لأنه هو المأخوذ ، وهو الذي يخاصم في دين الميت معناه قد ثبت عليه الدين في حال لا يتيسر عليه أداؤه من مال الميت فيحتاج إلى الأداء من مال نفسه ليرجع به في مال الميت .

ولا فرق في حق الميت بين أدائه من ماله وبين أدائه من مال نفسه ليرجع به في ماله ، وكذلك الوصي يشتري لليتيم الطعام والكسوة من ماله بشهادة الشهود أو يؤدي من مال نفسه خراجهم بشهود فله أن يرجع بذلك في مال الميت ; لأن شراء ما يحتاج إليه الصبي لا يقبل التأخير وفي الخراج بعد ما طولب بالأداء لا يتمكن من التأخير فيؤدي من مال نفسه لعدم تيسير الأداء من مال الميت في ذلك الوقت فلا يصدق على أداء الخراج ولا شراء شيء من ماله إلا بشهادة شهود على ذلك ; لأنه يدعي لنفسه دينا في مال الميت ، وهو لم يجعل أمينا في ذلك ، وإن كان للميت عنده مال فقال : أديت منه وأنفقت منه عليه فهو مصدق على ذلك بالمعروف ; لأنه أمين فيما في يده من المال فهو ينفي الضمان عن نفسه بما يخبر به مما هو محتمل فيقبل قوله في ذلك ، وهو نظير المودع إذا أمره المودع بقضاء دينه من الوديعة فزعم أنه قد قضى صاحب الدين دينه كان القول قوله مع اليمين في براءة نفسه عن الضمان بخلاف ما إذا أمره بقضاء دينه من مال نفسه ، فقال : قد قضيت لا يقبل قوله في إثبات حق الرجوع له عليه إلا ببينة ، وإذا قبض الوصي دينا كان للميت على إنسان كتب له البراءة بما قبض ، ولم يكتب البراءة من كل قليل أو كثير ; لأنه لا يدري لعل للميت مالا سوى ذلك فيكون بما يكتب عليه البراءة من كل قليل وكثير مبطلا لحق الميت ; ولأنه أمين فيما يقبضه فإنما يكتب له البراءة عما هو أمين فيه ، وهو ما وصلت إليه يده .

ولو أقر الوصي أن هذا جميع ما له عليه لم يصدق على الورثة ; لأنه مجازف في هذا الإقرار لا طريق له إلى معرفة كون المقبوض جميع ما له للميت عليه بخلاف ما إذا أقر الموصي بذلك ; لأنه عالم بما أقر به ; ولأنه مسقط لما وراء ذلك من جهته ، وهو يملك الإسقاط فأما الوصي فلا يملك إسقاط شيء من حق الورثة ، وإنما يملك الاستيفاء ، ثم هذا من الوصي إقرار على الغير ، ومن الموصي إقرار على نفسه وكذلك إبراء الوصي الغريم لا يجوز إلا أن يقول : برئت الآن من المال الذي كان عليك فحينئذ هو إقرار بالقبض ; لأنه ببراءته بفعل من المطلوب متصل بالطالب ، وذلك إيفاء المال ، وفي قوله برئت كذلك الجواب عند أبي يوسف وعند محمد هو لفظ إبراء كما بيناه في الكفالة ، وإذا أخذ الصبي مال الورثة [ ص: 33 ] إلى رجل لم يجز عليهم ، وإن كانوا صغارا ، وكذلك إن حط شيئا عن الغريم ; لأن هذا إسقاط في الدين الواجب لا بعقد هو ثابت في الاستيفاء فيكون في الإسقاط كأجنبي آخر والتأخير إسقاط المطالبة إلى مدة فهو بمنزلة الإبراء فإذا احتال به على إنسان أملأ من الغريم فهو جائز ; لأنه ليس فيه إسقاط حقهم بل فيه تصرف على وجه النظر لهم ; لأن الدين في ذمة المليء يكون أقوى منه في ذمة المفلس فهو بمنزلة ما لو اشترى لهم عينا .

وإن كان الذي احتال عليه مفلسا والغريم مليئا فالحوالة باطلة والمال على الأول على حاله ; لأنه لا منفعة لهم في هذا التصرف بل فيه ضرر عليهم ، وهو مأمور بقربان ما لهم على الأصلح والأحسن ، وكذلك إذا صالح على حق اليتيم ، فإن كان الصلح خيرا له يوم صالح فهو جائز ، وإن كان شرا له لم يجز معناه إذا كان الدين لليتيم ولا حجة له على ذلك فصالح الوصي على مال يستوفيه لليتيم خير له من يمين المدعى عليه وإن كان لليتيم بينة فالصلح شر له لما فيه من إسقاط بعض حقه مع تمكنه من إثباته فإن مبنى الصلح على الحط والتجوز بدون الحق ، وكذلك إن ابتاع لنفسه من متاعهم شيئا ، فإن كان ذلك خيرا لهم ، فإن ابتاع بأكثر من ثمن مثله جاز ، وإن كان ثمن المثل أو دون ذلك لم يجز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر ، وفي قوله الأول ، وهو قول محمد وزفر رحمه الله لا يجوز بحال ، وكذلك الخلاف فيما إذا باع مال نفسه من مال اليتيم ، فإن كان بمثل قيمته أو أكثر لم يجز ، وإن كان أقل من قيمته فهو على الخلاف فأما الأب إذا فعل هذا مع نفسه يجوز في قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله بمثل قيمته أو بغبن يسير .

وفي قول زفر لا يجوز ; لأن الواحد لا يتولى طرفي العقد من الجانبين في البيع والشراء كالوكيل ، وهذا ; لأنه يؤدي إلى تضاد الأحكام ; لأنه يكون مستزيدا مستنقصا مسلما متسلما طالبا مطالبا ، ثم في حق نفسه هو متهم ، وليس للأب والوصي أن يتصرف في مال اليتيم على وجه يؤدي إلى التهمة .

( ألا ترى ) أنه لا يعامل الأجنبي بغبن فاحش لأجل التهمة فكذلك لا يعامل نفسه في ذلك وجه الاستحسان أن الأب غير متهم في حق ولده ; لأن له من الشفقة عليه ما يؤثره على نفسه ، ويكون تصرفه مع نفسه وتصرفه مع أجنبي آخر سواء في انتفاء التهمة ، ثم في هذا التصرف يكون نائبا محضا في جانب الصغير ; ولهذا لو بلغ الصغير كانت العهدة عليه ; لأن الأب يمكنه التزام سبب إلزام العهدة إياه بأن يأذن له في التجارة فإذا صار نائبا في جانبه لا يؤدي إلى تضاد الأحكام بخلاف الوكيل ، وأما وجه قول محمد في الوصيين إنما تركنا القياس في الأب لمعنى وفور شفقته وذلك لا يوجد في حق الوصي فيؤخذ فيه بالقياس [ ص: 34 ] ألا ترى ) أنه لا يملك التصرف مع نفسه بمثل قيمته لهذا .

ولو كان هو مالكا للتصرف مع نفسه لملك مثل قيمته كما يملك ذلك مع الأجنبي وأبو حنيفة وأبو يوسف استحسنا إذا كان للصبي في تصرفه منفعة ظاهرة ; لأنه قد ظهر منه ما يدل على وفور الشفقة وإيثاره الصبي على نفسه فيما هو المقصود بالتصرف ; لأنه لا مقصود فيه سوى المالية فباعتبار هذا المعنى يلتحق بمن هو وافر الشفقة ، وهذا ; لأنه يمكن أن يجعل نائبا في جانب الصبي ; لأنه يملك أن يلزمه العهدة بالإذن له في التجارة كالأب بخلاف ما إذا كان تصرفه بمثل القيمة ; لأنه لم يظهر منه ما ينفي التهمة عنه ولا ما يكون جائزا لنقصان تفويت المقصود بالعين على الصبي ، وإذا نفذ الوصي أمور الميت وسلم الباقي إلى الوارث ، وأراد أن يكتب على الوارث كتاب براءة للوصي من كل قليل أو كثير فللوارث أن يمتنع من ذلك ; لأنه لا يدري أن ما سلم إليه جميع حقه فلعله أخفى بعض ذلك أو أتلفه فإن الخيانة من الأوصياء ظاهرة وأداء الأمانة منهم نادر فلا يجب على الوارث أن يكتب له البراءة إلا بما أخذ منه بعينه فهذا هو العدل بينهما ; لأن على طريقة القياس من استوفى حق نفسه لا يلزمه أن يكتب البراءة لغيره ، ولكن لأجل النظر للوصي يأمره أن يكتب له البراءة وإنما يكتب على وجه لا يتصور هو به ، وذلك في أن يكتب البراءة مما أخذ منه بعينه قال : وإذا أعطى الوصي أحد الورثة ، وهو كبير نصيبه مما وصل إليه من الميراث ، وهو ألف درهم ، ثم جحد وقال : لم يكن عندي غير هذا فهو ضامن لألف أخرى حصة الصغير ; لأنه قد تقدم منه الإقرار بوصول الألفين إليه ; لأن من ضرورة دفعه ألفا إلى أحدهما إقراره أن المدفوع نصيبه أقر بأن عنده مثل ذلك للصغير فالثابت بضرورة النص كالثابت بالنص فكان في الجحود بعد ذلك مناقضا فلا يقبل قوله ويضمن للصغير ألفا أخرى ، وإذا كان في الورثة صغير كان للوصي أن يبيع العقار وسائر الميراث .

وكذلك لو كان على الميت دين أو أوصى بوصية ، وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد : ليس له أن يبيع حصة الكبار من العقار وإنما يبيع حصة الصغار خاصة ، وكذلك لا يبيع إلا بقدر الدين من العقار ، وهو قول ابن أبي ليلى ، والقياس هذا ; لأن ولايته على نصيب الصغير دون نصيب الكبير اعتبارا لحالة الاختلاط بحالة الانفراد ، وكذلك ولايته باعتبار الدين فيتقدر بقدر الدين وفيما زاد على ذلك يجعل كأنه لا دين على الميت ولا صغير في ولايته فلا يكون له أن يبيع العقار وأبو حنيفة استحسن فقال : لما ثبتت له الولاية في بيع البعض ثبتت في الكل ; لأن الولاية بسبب الوصاية لا تحتمل التجزؤ [ ص: 35 ] وهذا ; لأن في بيع البعض إضرارا بالصغير والكبير جميعا ; لأنه يثبت به نصيب الكبير والأشقاص لا يشترى بما يشترى به الجل فكان في بيع الكل توفر المنفعة عليهم وللوصي ولاية في نصيب الكبير فيما يرجع إلى توفير المنفعة عليه .

( ألا ترى ) أنه يملك الحفظ وبيع المنقولات حال غيبته لما فيه من المنفعة له قال ، وإذا أوصى بالثلث في أشياء يشترى به ويتصدق بها والورثة كلهم كبار فللوصي أن يبيع العقار كله في قول أبي حنيفة لما فيه من توفير المنفعة على الورثة وعندهما ليس له أن يبيع من العقار غير الثلث ; لأن ثبوت الولاية له بسبب الوصية فيقتصر على معدن الوصية ، وهو الثلث ، فإن كانت الورثة كبارا كلهم وليس عليه دين ولم يوص بشيء ، فإن كانت الكبار غيبا أو بعضهم كان للوصي أن يبيع الحيوان والعروض ; لأنه يملك حفظ التركة إلى أن يحضروا فيقتسموا وبيع الحيوان والعروض من الحفظ ; لأنه يخشى عليها التلف وحفظ الثمن أيسر وليس له ولاية بيع العقار ; لأنها مختصة بنفسها فبيعها ليس من الحفظ .

وإن كانوا حضورا لم يكن له أن يبيع شيئا من ذلك ولكن يسلم الكل إليهم لينظروا فيه لأنفسهم بالبيع أو القسمة بينهم ; لأنهم يتمكنون من النظر لأنفسهم إذا كانوا حضورا فلا حاجة إلى نظر الوصي لهم ، وإن كانوا غيبا فأجر الوصي عبدا أو دابة فهو جائز ; لأن هذا من باب النظر والحفظ ، فإن المنفعة أقرب إلى الهلاك من العين ; لأنها لا تبقى وقتين ففي استبدال ذلك بما يبقى لهم ، وهي الأجرة توفر المنفعة عليهم وما اشترى الوصي للرقيق من الكسوة فلا ضمان على الوصي فيه ; لأنه أمين حافظ لهم بحق فهلاكه في يده كهلاكه في أيديهم ، وإذا قسم الوصي المال بينهم وهم كبار فأعطى نصيب الحضور منهم وأمسك نصيب الغائب فهو جائز ; لأنه في العروض يملك البيع في نصيب الغائب فيملك القسمة أيضا ، وهذا ; لأن في قسمته معنى الحفظ في حق الغائب ; لأنه يتميز بالقسمة ملكه من ملك غيره

التالي السابق


الخدمات العلمية