الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( ووجب باستطاعة ) ش لما كان الحكم الشرعي يتوقف على وجوب شرطه وسببه وانتفاء مانعه ، وفرغ المصنف من بيان شروط الحج ذكر هنا سببه وسيذكر في آخر الحج موانعه ، فقال : ووجب باستطاعة ، يعني أن سبب وجوب الحج الاستطاعة ، وإفرادها عن شروط الحج وعدم عطفها عليها وإدخال الباء الدالة على السببية عليها يدل على أنه أراد ما ذكرناه ، وهكذا قال القرافي في الذخيرة ونصه قال الله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وترتيب الحكم على الوصف يدل على سببية ذلك الوصف لذلك الحكم كقولنا : زنى فرجم ، وسرق فقطع ، وسها فسجد ، وقد رتب الله سبحانه الوجوب بحرف " على " للاستطاعة فتكون سببا له انتهى .

                                                                                                                            وتبعه التادلي وابن فرحون في مناسكه وأكثر أهل المذهب يجعلون الاستطاعة من شروط الوجوب وعلى ذلك مشى ابن بشير وابن شاس وابن الحاجب والمصنف في مناسكه وابن عرفة وغيرهم وتقدم عن بعضهم أنها من شروط الصحة منهم ابن الحاجب ونقله عنه التادلي بعد ذكره القول الأول ، وإليه أشار في الشامل فقال : والاستطاعة شرط في وجوبه لا في صحته على الأصح انتهى .

                                                                                                                            ونقله الشيخ أحمد زروق ونصه والاستطاعة هي شرط وجوب لا صحة على الأصح انتهى .

                                                                                                                            ومقابل الأصح هو ما تقدم عن ابن الحاجب وغيره ونحوه في عبارة التلقين ونصه وشرط أدائه شيئان : الإسلام وإمكان المسير ، قال مؤلف طرر التلقين : عده إمكان المسير شرط أداء وهو شرط وجوب إذ هو من لواحق الاستطاعة ، ووجه قوله هذا هو أن لا يتصور له حج إلا على وجه يغرر فيه بنفسه وماله وقد تحققه فيكون حجه على هذا معصية ولا يكون قربة فلا تبرأ ذمته ويكون كحج الكافر قبل إسلامه فيتوجه على هذا أن يقال : هو شرط للأداء وللوجوب انتهى .

                                                                                                                            وقد تقدم أنه إنما يتصور هذا حيث يقع الإحرام وهو غير مستطيع وأما لو تكلف حتى صار في الموضع الذي يكون منه مستطيعا ثم أحرم صح حجه ولا يتصور فيه نزاع ; لأنه قد صار واجبا عليه كما تقدم فيتحصل فيها ثلاثة أقوال : أحدها أنها سبب . الثاني أنها شرط في وجوب الحج وهما متقاربان . الثالث أنها شرط في الصحة وهو ضعيف كما بينا في شرح المناسك وقال البساطي : يعني أنه يتحتم الوجوب بالاستطاعة ولذلك عبر بالفعل انتهى .

                                                                                                                            وفي كلامه نظر ; لأنه يقتضي أن الحج يجب بدون الاستطاعة ويتحتم بوجودها ولا أعلم أحدا يقول بوجوبه بدون الاستطاعة ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( تنبيه ) فإذا وجدت شروط وجوب الحج ووجد سبب الوجوب أعني الاستطاعة فإن كان بينه وبين زمانه وقت واسع كان وجوبه موسعا ومتى سعى فيه سعى في واجبه وإن مات قبل فوت وقته سقط عنه كما إذا طرأ لعذر في وقت أداء الصلاة ، فإن لم يخرج إلى الحج حتى فات الحج فقد استقر الوجوب عليه ، لكنه إذا مات سقط الوجوب عنه بموته عندنا ، ولا يلزم ورثته ولا ماله شيء إذا لم يوص بذلك ، قال صاحب الطراز : وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي وأحمد بن حنبل : إن مات قبل مضي زمن الحج فلا شيء عليه وإن مات بعده فذلك في رأس ماله انتهى .

                                                                                                                            ص ( بإمكان الوصول بلا مشقة عظمت وأمن على نفس ومال )

                                                                                                                            ش : لما ذكر أن سبب وجوب الحج الاستطاعة أخذ يفسرها وذكر أنها إمكان الوصول إلى مكة بلا مشقة عظمت مع الأمن على النفس والمال ، وهذا هو المشهور في المذهب قال مالك في كتاب محمد : وفي سماع أشهب لما سئل عن قوله تعالى [ ص: 492 ] { من استطاع إليه سبيلا } أذلك الزاد والراحلة ، قال : والله ما ذاك إلا طاقة الناس ، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المسير وآخر يقدر أن يمشي على رجله ولا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى { من استطاع إليه سبيلا } وزاد في كتاب محمد ورب صغير أجلد من كبير ، ونقل في المقدمات كلام مالك ثم قال بعده : فمن قدر على الوصول إلى مكة إما راجلا بغير كبير مشقة أو راكبا بشراء أو كراء فقد وجب عليه الحج انتهى .

                                                                                                                            ونقله في التوضيح أيضا وقيل : الاستطاعة الزاد والراحلة ، وهو قول سحنون وابن حبيب قال في التوضيح : ودليله أي قول سحنون وابن حبيب ما رواه أبو داود والترمذي { أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الاستطاعة فقال هي الزاد والراحلة } الترمذي وتكلم بعض أهل العلم في راويه من قبل حفظه وأجيب عنه بأنه خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ، أو أنه فهم عن السائل أنه لا قدرة له إلا بذلك انتهى .

                                                                                                                            قال ابن رشد في سماع أشهب وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الزاد والراحلة معناه في بعيد الدار انتهى .

                                                                                                                            قال في التوضيح : قال في الجواهر : وتأول أي قول سحنون وابن حبيب على من بعدت داره انتهى .

                                                                                                                            ويشير بذلك لتقييد الشيخ أبي محمد قولهما في اعتبار الراحلة بالبعيد حيث قال في نوادره : يريد الراحلة في بعيد الدار وقبل المتأخرون تقييده بذلك وذكره ابن يونس عن سحنون ونصه قال سحنون : الاستطاعة الزاد والراحلة لبعيد الدار والطريق المسلوك انتهى .

                                                                                                                            بل حكى سند الإجماع على أن من كان دون مسافة القصر لا يعتبر في حقه وجود الراحلة ونصه والدليل على الاعتبار بالقدرة دون الملك أن التمكن من المشي إلى الحج وهو منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة لم يعتبر في وجوبه عليه الراحلة إجماعا ، وما كان شرطا في الوجوب استوى فيه كل أحد كالعقل والبلوغ انتهى .

                                                                                                                            وعلى هذا يقول صاحب الشامل : ومن تبعه . وثالثها يعتبر الزاد والراحلة لمن بعد مكانه مشكل ; لأنه يوهم أن تقييد الشيخ أبي محمد خلاف ، وأن التقييد بالبعيد راجع إلى الزاد والراحلة ولم يذكروه إلا في الراحلة ، وأما الزاد فلا بد من اعتباره قال ابن الحاج عن محمد بن وضاح أنه سمع رجلا من أهل مكة يقول لابن قنبل المكي : ما الاستطاعة التي توجب علينا الحج ؟ قال خبزة نتزودوها إلى عرفة انتهى .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) قوله هنا : بلا مشقة عظمت ، هو معنى قوله في منسكه : من غير مشقة فادحة بالفاء والدال والحاء المهملتين أي ثقيلة عظيمة من فدحه الدين ، إذا أثقله ، واحترز بذلك من مطلق المشقة فإن السفر لا يخلو عنها ، ولذلك رخص فيها للمسافر بالقصر والفطر وقد قال عليه الصلاة والسلام : { السفر قطعة من العذاب } متفق عليه . وقال سند : المشقة على حسب الأحوال فما هان تحمله لم يؤثر وما صعب أثر انتهى .

                                                                                                                            ( الثاني ) إذا فسرنا الاستطاعة بإمكان الوصول كما هو المشهور دخل في ذلك إمكان المسير وأمن الطريق وإن فسرناها بالزاد والراحلة قال سند : فهما شرطان زائدان ، قال أصحاب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة هما شرطا وجوب وهو الجاري على أصول أصحابنا ، وقول ابن حنبل وبعض الحنفية : هما شرطا أداء . ا هـ . وعلى هذا فعطف المصنف الأمن على النفس والمال على إمكان الوصول من باب عطف الخاص على العام لزيادة الاهتمام به .

                                                                                                                            ( الثالث ) معنى إمكان المسير أن يبقى بينه وبين الحج زمان يمكنه المسير فيه السير المعتاد ; لأن فعل العبادة لا يجب إلا بإمكانه كسائر العبادات ، قاله سند قال ابن جماعة الشافعي إثر نقله كلام سند وقال غيره من المالكية : إن كان يمكنه حمل المشقة في ذلك لزمه الحج انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) والظاهر أن هذا ليس بخلاف لما قاله سند ; لأنه إذا كان يمكنه حمل المشقة وليست عظيمة فهو مستطيع فيلزمه الحج ، وإن كانت المشقة عظيمة فالظاهر أنه لا يقول أحد بوجوب تحملها ، وإذا لم [ ص: 493 ] يبق بينه وبين زمن الحج زمن يمكنه فيه المسير فلا يلزمه الحج في هذه السنة ويكون موسعا عليه فيه إلى الوقت الذي يمكنه فيه المسير من السنة القابلة ، فيجب عليه حينئذ الخروج والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية