الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( فرع ) فلو تعدد محل النجاسة ووجد من الماء ما يغسل به النجاسة من محل دون محل وجب عليه ذلك ; لأن تقليل النجاسة مطلوب بخلاف غسل بعض ما في محل واحد فإن غسله يزيده انتشارا ذكر ذلك ابن الإمام وأخذه من قول مالك في المرضع ولتدرأ البول جهدها وقاله سند في باب التيمم ، وقوله : ولو طرف عمامته يعني أن إزالة النجاسة تطلب من ثوب المصلي وعن كل ما هو حامل له .

                                                                                                                            ولو كان طرف ذلك الثوب ، أو العمامة ، أو نحوه ملقى على الأرض ; لأن المصلي يعد حاملا لذلك في العرف ولأنه ينتقل بانتقال المصلي ، وقيل : لا يضره ذلك وإلى هذا الخلاف أشار بلو وظاهر كلامه أن الخلاف في طرف عمامته سواء تحركت بحركته أم لا وكلام ابن الحاجب يقتضي أنها إن تحركت بحركته اعتبرت اتفاقا فإنه قال : ونجاسة طرف العمامة معتبرة ، وقيل : إن تحركت بحركته وبذلك صرح ابن عات ، فقال : إن تحركت بحركته اعتبرت اتفاقا نقله ابن فرحون في شرح ابن الحاجب وكلام ابن ناجي - رحمه الله تعالى - في شرح المدونة يدل على ذلك وظاهر كلام صاحب الطراز أن القاضي عبد الوهاب جعلها كالحصير فيصح حينئذ إطلاق الخلاف فيها ويختلف الترجيح فالأرجح في العمامة البطلان ; لأنه يعد حاملا لها كما تقدم والأرجح في [ ص: 135 ] الحصير عدم البطلان كما سيأتي ; لأنه إنما صلى على موضع طاهر وتقييدنا طرف العمامة بكونه ملقى على الأرض يؤخذ من الإغياء إذ لو لم يكن كذلك لما حسن الإغياء وهو معطوف على مقدر تقديره كان ذلك الثوب غير طرف عمامته ، ولو كان طرف عمامته .

                                                                                                                            وقوله وبدنه معطوف على ثوب ويعني أن إزالة النجاسة مطلوبة عن بدن المصلي أيضا كطلب إزالتها عن ثوبه ولا شك في تناوله لظاهر جسد المصلي ولما هو في حكم الظاهر كداخل الفم والأنف كما صرح بذلك سند في باب ترتيب الوضوء وموالاته قال : وكذلك داخل العينين فلو اكتحل بمرارة خنزير ، أو غيره من النجاسات أمرناه بغسل داخل عينيه قال : وكذلك لو أصاب أذنيه نجاسة أمر بمسح ما يقدر عليه من صماخيه انتهى .

                                                                                                                            وسيأتي - إن شاء الله تعالى - أن من دمي فمه فمج الريق حتى انقطع الدم لم يطهر بذلك على الأصح وصرح في التوضيح في باب الرعاف بأن داخل الفم له حكم الظاهر وهذا بخلاف طهارة الحدث فإن داخل الفم والأنف فيها من الباطن الذي لا يجب غسله ، وكذلك داخل العينين والأذنين . وأما ما كان من باطن الجسد غير ما ذكرناه فاختلف هل تجب إزالة النجاسة منه إذا أدخلت فيه أم لا . أما ما يتولد في باطن الآدمي فلا يحكم له بالنجاسة إلا بعد انفصاله وإنما الخلاف فيما أدخل إلى الباطن من النجاسة كمن شرب خمرا أو شيئا نجسا ، فقال التونسي : ما يداخل الجسد من طهارة أو نجاسة لغو ، وقال اللخمي : ما أدخل من النجاسات في باطن الجسد كما بظاهره ونقله عن رواية محمد ، وقال ابن عرفة : وفي كون نجاسة أدخلت في باطن الجسد كما بظاهره ولغوها . نقل اللخمي عن رواية محمد يعيد شارب قليل خمر لا يسكره صلاته أبدا مدة ما يرى بقاءها ببطنه ، وقال التونسي : ما يداخل الجسد من طهارة ، أو نجاسة لغو انتهى .

                                                                                                                            قال ابن ناجي - رحمه الله تعالى - في شرح المدونة : وكان عندي أن ما ذكره اللخمي هو الذي يقوم من المدونة ثم ظهر لي أن لفظها لا يدل على ذلك انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) واقتصر القرافي في الفرق الرابع والثمانين على القول الثاني ، فقال : لا فرق بين كون النجس في ظاهر الجسد ، أو باطنه وتبطل به الصلاة . وأنكره ابن الشاطر ورد عليه ، وقال : إنه لم يقف عليه لغيره وكأنه لم يقف على ما نقله اللخمي عن ابن المواز والصواب ما قاله القرافي .

                                                                                                                            ( تنبيه ) قال ابن ناجي : وانظر إذا تاب ولم يمكنه أن يتقايأ هل تصح صلاته ويصير كصاحب السلس أو يختلف فيه كما يختلف فيمن استدان لفساد وتاب هل يعطى من الزكاة وقطع شيخنا أبو محمد الشبيبي بالأول وفيه نظر انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) ويفهم منه أنه يجب عليه أن يتقايأ ذلك وأنه لو صلى بذلك مع تمكنه من القيء لم تصح صلاته ، وكذلك إن لم يتب ، وفي كلام صاحب الطراز إشارة إلى وجوب القيء على هذا القول وهو ظاهر ما ذكره في كتاب الصلاة وعلى قول التونسي بصحة صلاته معناه إذا كان يتحفظ على ثوبه وفمه من الخمر والنجاسات قاله غير واحد والله - تعالى - أعلم بالصواب .

                                                                                                                            وقوله : " ومكانه " معطوف على قوله ثوب ويعني أن النجاسة تطلب إزالتها عن مكان المصلي أيضا كطلب إزالتها عن ثوبه وبدنه ، والمعتبر من المكان محل قيامه وسجوده وقعوده وموضع كفيه قاله غير واحد . قال في الجواهر : وليكن كل ما يماس بدن المصلي عند القيام والجلوس والسجود طاهرا . وقاله في الذخيرة وزاد : وأما ما لا يمسه فلا يضره انتهى .

                                                                                                                            ولا يضره ما كان أمامه ، أو على يمينه أو شماله قال في المدونة : في كتاب الصلاة الأول ، ومن صلى وبين يديه جدار مرحاض ، أو قبر فلا بأس به إذا كان موضعه طاهرا . قال ابن ناجي : ظاهره وإن ظهر على الجدار نجاسة وهو كذلك ; لأن المعتبر محل قيام المصلي وقعوده وسجوده وموضع كفيه لا أمامه ، أو يمينه ، أو شماله انتهى .

                                                                                                                            . وقال سند : إن كان ظاهر الجدار نجسا فالمذهب أن الصلاة صحيحة . وقال ابن حبيب من تعمد الصلاة إلى [ ص: 136 ] النجاسة وهي أمامه أعاد الصلاة إلا أن تكون بعيدة جدا ، أو يواريها عنه شيء فإن كان دونها ما لا يواريها فذلك كلا شيء قال : وإن كان ظاهر الجدار طاهرا فلا خلاف أن الصلاة صحيحة إلا أنه يكره ابتداء كما يكره أن يكون ذلك في حائط قبلة المسجد ولا ينبغي أن يواجه المصلي شيء متنجس انتهى .

                                                                                                                            وفي رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الصلاة النهي عن الصلاة إلى جدار المرحاض والمجنون والصغير والمرأة والكافر والمأبون في دبره فإن فات ذلك وصلى حذاءهم ، أو هم أمامه لم يعد الصلاة عامدا ، أو ناسيا ، أو جاهلا في وقت ، ولا في غيره . ابن رشد لأن الشرع قد قرر تعظيم شأن القبلة فمن الاختيار للمصلي أن ينزه قبلته في الصلاة عن كل مكروه انتهى .

                                                                                                                            ( فرع ) قال ابن عرفة عياض : وسقوط طرف ثوب المصلي على جاف نجاسة بغير محله لغو . وقال ابن ناجي - رحمه الله تعالى - في شرح المدونة في كتاب الطهارة : إنه ظاهر المدونة ولم يحك عياض غيره قال : ومثله لابن بشير في كتاب التهذيب فإنه قال : أشار في الكتاب إلى أن النجاسة متى كانت في موضع لا يلاقيه شيء من جسد المصلي فلا يعيد . وقال البرزلي أحفظ في الإكمال أن ثياب المصلي إذا كانت تماس النجاسة ، ولا يجلس عليها فلا تضره .

                                                                                                                            وفرع البرزلي على ذلك أن من صلى إلى جنب من يتحقق نجاسة ثيابه فإن كان يعتمد عليها بحيث يجلس عليها ، أو يسجد ببعض أعضائه فلا يجوز . وأما إن لاصقه فلا يضره . وأما إن استند إليه ففي المدونة لا يستند المصلي لحائض ، ولا لجنب فقيل : لأن المستند شريك المستند إليه ، وقيل : لنجاسة ثيابه ويعيد إن فعل في الوقت . وذكر ابن ناجي - رحمه الله تعالى - في شرح المدونة أثر كلامه السابق عن شيخه البرزلي أنه كان يخالف عياضا فيما قاله ويرى أنه بمنزلة من صلى على نجاسة قال : وما ذكره ذهب إليه بعض فضلاء أصحابنا وبنى عليه أن من صلى على فراش يحاذي صدره منه ثقب بأسفله نجاسة لم تمسه أنه يعيد صلاته قال : وهو بعيد جدا ; لأن المعتبر إنما هو ما يباشره انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) وما قاله عياض وارتضاه ابن ناجي هو الظاهر وهو الذي يقتضيه كلام أهل المذهب ويكفيه قبول ابن عرفة له والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                            ذكر صاحب الجمع عن الذخيرة أن طرف العمامة على النجاسة لا يضر قال : والفرق بين كون الطرف نجسا ، أو موضوعا على النجاسة ظاهر ; لأنه في الأولى حامل للنجاسة بخلاف الثانية ولم أر في الذخيرة ما ذكره فيها .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية