الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وبخلاف درهم بنصف وفلوس أو غيره في بيع وسك واتحدت وعرف الوزن وانتقد الجميع كدينار إلا درهمين وإلا فلا )

                                                                                                                            ش : هذه المسألة تعرف بمسألة الرد في الدرهم وصورتها أن يعطى الإنسان درهما [ ص: 319 ] ويأخذ بنصفه فلوسا أو طعاما أو غير ذلك وبالبعض الباقي فضة والأصل فيها المنع ، كما تقدم أنه لا يجوز أن يضاف لأحد النقدين في الصرف جنس آخر ; لأنه يؤدي إلى الجهل بالتماثل ، والجهل بالتماثل كتحقق التفاضل وهذه المسألة مستثناة من القاعدة المذكورة للضرورة ، وكان مالك يقول بكراهة الرد في الدرهم ، ثم خففه لضرورة الناس ولما رجع إليه أخذ ابن القاسم ، وهو المشهور من المذهب ومنع من ذلك سحنون وفصل أشهب ما أجازه حيث لا فلوس ومنعه في بلد يوجد فيه الفلوس ، وهذه طريقة أكثر الشيوخ ، وجعل ابن رشد الخلاف في البلد الذي فيه الفلوس ، وعلى المشهور فذكروا للجواز شروطا ذكر المصنف غالبها .

                                                                                                                            ( الأول ) أن يكون ذلك في درهم واحد فلو اشترى بدرهم ونصف لم يجز أن يدفع درهمين ويأخذ نصفا وكذلك لو اشترى بدرهمين ونصف لم يجز أن يدفع ثلاثة ويأخذ نصفا وكذلك ثلاثة ونصف وفهم بعض طلبة العلم من أهل عصرنا أن معنى هذا الشرط أن لا يشتري الشخص سلعتين أو أكثر كل سلعة بنصف درهم ويرد في كل سلعة نصف درهم قال : وأما الصور التي ذكرناها فجائزة ، وما قاله ليس بصحيح أما المنع في المسائل التي ذكرناها فقد صرح به غير واحد قال القباب في شرح مسائل ابن جماعة التونسي في البيوع .

                                                                                                                            ( الثاني ) أن يكون ذلك في الدرهم الواحد احترازا من أن يدفع إليه كبيرين أو ثلاثة أو أكثر ويسترد فيها درهما صغيرا فإنه يرجع إلى أصل المنع نص عليه ابن رشد في سماع عيسى ، ونقله عياض عن ابن أبي زمنين وعبر ابن عرفة عن هذا الشرط بقوله : وشرط الرد على المشهور متفقا عليه كونه في درهم كل الثمن وسكة المردود ، وعدم زيادته على النصف وأما الصور التي ذكرها فالمنع فيها ظاهر ; لأنه إن كان العقد وقع على السلعتين أو السلع جميعا فهذا حكمه حكم العقد الواحد ففي السلعتين يدفع له درهما ولا يجوز أن يدفع له درهمين ويأخذ صرف درهم كامل وفي السلع الكثيرة المنع أظهر ، وهذا الشرط يستفاد من قول المصنف " بخلاف درهم " ويستفاد منه شرط ثان ، وهو أنه لا يجوز الرد في الدينار ، وهذا هو المعروف من المذهب قال ابن ناجي في شرح المدونة في كتاب الصرف لما تكلم على مسألة الرد في الدرهم : والمعروف منع رد الذهب في مثله ونقل بعضهم جواز الرد فيه ولم يوجد النقل الذي نقله لغيره ا هـ . وقال ابن عرفة بعد أن نقل منع الرد في الدينار .

                                                                                                                            ( قلت ) نقل بعضهم جواز الرد في الدينار لا أعرفه ونقل عن بعض عدول بلدنا المدرسين أنه أفتى به فبعث إليه القاضي ابن عبد السلام وأتاه فسأله عما نقل عنه ليؤنبه على ذلك فأنكر فتواه بذلك ا هـ .

                                                                                                                            ( تنبيه ) هذا في غير الدينار المشترك بين اثنين قال ابن ناجي في شرح المدونة في مسألة الحلي المشترك أفتى ابن عبد السلام بجواز رد الذهب في مثله للشريكين في دينار مثلا أخذا من قولها في الحلي من باب أحرى ; لأن قطع الحلي يجوز بخلاف قطع الدينار وبذلك أفتى أبو علي بن قداح ، ثم رجع إلى المنع لما بلغه عن غير واحد من التونسيين ممن كان في طبقة شيوخه كالشيخ أبي محمد الزواوي وأبي القاسم بن زيتون ، ونص على الجواز أبو حفص العطار واللخمي ولم يحفظ الشيخان الأولان نصهما ا هـ . وفهم من حصر المصنف المسألة في نصف وفلوس مسألتان إحداهما أنه لا يشترط في المسألة أن يكون ذلك في بلد ليس فيه فلوس خلافا لبعضهم ، نقله ابن يونس ، وذكره في التوضيح ، والثانية أنه يجوز أن يرد الفلوس مع الفضة ، ونقل في التوضيح عن أشهب المنع وعبر عنه ابن رشد بالكراهة نقل ذلك في التوضيح وغيره .

                                                                                                                            ( الشرط الثالث ) أن يكون المردود النصف فأقل فإن كان المردود أكثر من النصف لم يجز خلافا لأشهب وقوله في المدونة : وإن أخذت بثلثه ، أي الدرهم طعاما وباقيه فضة فمكروه [ ص: 320 ] ا هـ . قال أبو الحسن : أي حرام وفي الأمهات فلا يجوز ا هـ . ومسألة المدونة هذه في الصرف في ترجمة الذي يصرف الدنانير بدراهم ، ثم يصرفها بدنانير من رجل واحد .

                                                                                                                            ( الشرط الرابع ) أن يكون ذلك في بيع يريد أو ما في معناه من إجارة أو كراء ولا يجوز في صدقة ولا هبة ولا قرض .

                                                                                                                            ( تنبيه ) قال القباب : إنما يجوز الرد في الكراء والإجارة بعد استيفاء جميع المنافع فلا يجوز أن يعطي نعله ، ودلوه لمن يخرزه على أن يعطيه درهما كبيرا ويرد عليه الصانع درهما صغيرا ، ويترك عنده شيئه حتى يصنعه ويجوز ذلك بعد تمام العمل إذا لم يكونا دخلا على ذلك في أصل العقد ا هـ .

                                                                                                                            ( تنبيه ) وعلى هذا وقع الخلاف بين التونسيين فيمن اشترى لبنا أو مخيضا في إناء من عند البائع يحمل فيه بنصف درهم على أن البائع يرد إليه نصفا فمنهم من أفتى بالمنع نظرا إلى أنه بيع وإجارة ولم تستوف فيها المنفعة ومنهم من أفتى بجوازه ليسارة منفعة الحمل في الآنية ، نقل القولين ابن عرفة في الكلام على البيع ، والصرف وفي كلامه ميل إلى الجواز ، ونقل ذلك ابن ناجي في شرح المدونة ، ثم قال وبالمنع كان يفتي شيخنا الشبيبي إلا أن يظهر أنه لا حصة للإناء من الثمن لوصلة تكون بينه وبينه بحيث إنه لو اشترى من عند غيره ، وطلبه فيه فإنه يعيره ا هـ .

                                                                                                                            ( قلت ) أو ليسارة ثمنه بحيث إنه لو جاء المشتري بإناء من عنده لم ينقص له من الثمن .

                                                                                                                            ( الشرط الخامس ) أن يكون الدرهم والنصف مسكوكين .

                                                                                                                            ( الشرط السادس ) أن تتحد سكتهما وانظر ما معنى هذا الشرط وما المراد منه هل هو أن يكون الدرهم والنصف سكة ملك واحد أو أن يكونا من سكة مملكة واحدة ولو تعددت الملوك إذا كان التعامل بين الناس بتلك السكك ولو كان الدرهم من سكة ملك والنصف من سكة ملك آخر ولكن جرى التعامل بين الناس على أن هذا نصف هذا وعلى هذا تدل فتاوى المتأخرين انظر البرزلي واحترزوا بذلك عما إذا دفع درهما من سكة لا يتعامل بها ورد عليه من سكة أخرى أو بالعكس فلا يجوز ذلك ; لأن ذلك إنما أجيز للضرورة ولا ضرورة فيما إذا كان أحد الدرهمين من سكة لا يتعامل بها .

                                                                                                                            ( الشرط السابع ) أن يكون الدرهم ونصفه معروفي الوزن ، وانظر ما المراد بهذا الشرط أيضا هل هو أن يكون وزن النصف قدر نصف وزن الدرهم أو المراد معرفة وزن كل منهما ولو علم أن وزن النصف أكثر من وزن نصف الدرهم أو أقل الظاهر الأول ولذلك وقع الخلاف بين المتأخرين فيما إذا كان وزن النصف المردود أكثر في الوزن من وزن نصف الدرهم ولكنه لا يروج إلا بنصف درهم ، قال ابن ناجي في شرح المدونة في كتاب الصرف فمن المتأخرين من يجيزه اعتبارا بالنفاق ، ومنهم من يمنعه اعتبارا بالوزن ، والظاهر الجواز ; لأن أصل هذا الباب للضرورة فإن جرى التعامل بأن هذا نصف هذا فلا عبرة بزيادة وزنه مع تحقق الضرورة للرد ولهذا لم يذكر ابن عرفة هذا الشرط ولا الشرط الذي قبله ، والله أعلم ، وقد ذكر البرزلي مسألة تدل على ما اخترناه في هذين الشرطين ، ونصها في مسائل الصرف وقعت مسألة سألت عنها أشياخنا فاختلفوا فيها وهي أن التعامل كان بتونس بالدراهم عددا فجهل قدر الدراهم والأنصاف ، والأرباع لاختلاف السكك وتساويها في النفاق ، ولكنها صارت آحادها مجهولة القدر فهل يصح الرد فيها ؟ فسألت شيخنا الغبريني فمنعه ، وقاله ابن جماعة ولم يجبر على الجواز للضرورة لعدم فتوى من سبقه بذلك وسألت شيخنا ابن حيدرة فقال على ما قال في الأمر المهم هو جائز وسألت عنها شيخنا الإمام فقال : إن اضطر الإنسان يفعل وإلا فلا ، قال الله تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } فيتحصل فيما إذا وقع الاختلاط وعمت وغلبت الجهالة في الوزن والتفاوت في الطيب والرداءة [ ص: 321 ] والنفاق وأحد هذه الأقوال الثلاثة ، والصواب فتوى شيخنا الفقيه الإمام ; لأن أصل هذا الباب إنما هو جوازه للضرورة فمتى وجدت أبيح الحكم وإلا فلا .

                                                                                                                            ( الشرط الثامن ) أن ينقد الجميع ، أي السلعة المشتراة بنصف الدرهم ، أو الفلوس المأخوذة بنصفه ، والدرهم الكبير المدفوع ، والنصف المردود ، وهذا معنى قول المصنف : وانتقد الجميع وانظر ما معنى قوله : كدينار إلا درهمين ، والله أعلم ، وفي نسخة ابن غازي : وإلا فلا كدينار ودرهمين قال كذا يصوبه شيخنا الفقيه الحافظ أبو عبد الله القوري ، أي ، وإن لم تتوفر الشروط فلا يجوز كما لا يجوز الرد في الدينار ، ولا في درهمين فأكثر .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية