الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            قال : وسئل ابن المبارك من أعلم أمالك أو أبو حنيفة ؟ قال : مالك أعلم من أستاذي أبي حنيفة وهو إمام في الحديث والسنة وما بقي على وجه الأرض آمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك ولا أقدم عليه أحدا في صحة الحديث ولم أر أحدا مثله انتهى وقال أبو عمر في أول التمهيد عن ابن مهدي : سئل من أعلم مالك أو أبو حنيفة ؟ قال : مالك أعلم من أستاذي أبي حنيفة يعني حماد بن أبي سليمان انتهى وقال الجلال السيوطي في حاشية الموطإ : قال ابن مهدي : سفيان الثوري إمام الحديث وليس بإمام في السنة والأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث ومالك إمام فيهما جميعا وسئل ابن الصلاح في فتاويه عن معنى هذا الكلام فقال : السنة هنا ضد البدعة فقد يكون الإنسان عالما بالحديث ولا يكون عالما بالسنة انتهى وفي الديباج المذهب عن أحمد بن حنبل أنه سئل عمن يريد أن يكتب الحديث وينظر في الفقه حديث من يكتب وفي رأي من ينظر ؟ قال حديث مالك ورأي مالك . وذكر أبو نعيم في الحلية عن يحيى بن سعيد القطان قال : ما أقدم على مالك في زمانه أحدا ، وذكر أبو نعيم في الحلية أيضا عن خلف بن عمر قال سمعت مالك بن أنس يقول : ما أجبت في الفتيا حتى سألت من هو أعلم مني هل يراني موضعا لذلك ; سألت ربيعة وسألت يحيى بن سعيد فأمراني بذلك ، فقلت له : يا أبا عبد الله فلو نهوك قال : كنت أنتهي لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه انتهى . وقال في المدخل : قال القرافي : ما أفتى مالك رحمه الله حتى أجازه أربعون محنكا ذكره دليلا على أن المزية يخرج بها من المكروه ; لأن وصفهم بالتحنيك دليل على أنهم امتازوا به دون غيرهم وإلا فما كان لوصفهم بالتحنيك فائدة إذ الكل مجتمعون فيه انتهى وقال في المدونة : ولا ينبغي لطالب العلم أن يفتي حتى يراه الناس أهلا للفتيا قال سحنون : الناس هاهنا العلماء . قال ابن هارون : ويروى هو نفسه أهلا لذلك ، وقال القاضي عياض : قال الشافعي : قال لي محمد بن الحسن : رضي الله عنهما أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم يعني أبا حنيفة أو مالكا ؟ فقال : قلت : أعلى الإنصاف ؟ قال : نعم ، قال : قلت : فأنشدك الله من أعلم بالقرآن أصاحبنا أم صاحبكم ؟ قال : اللهم صاحبكم . قلت : فأنشدك الله من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم ؟ قال اللهم صاحبكم . قال : قلت : فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدمين أصاحبنا أم صاحبكم ؟ قال اللهم صاحبكم قال الشافعي قلت : فلم يبق إلا القياس والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء تقيس ؟ انتهى وعن المثنى بن سعيد قال : سمعته يقول : ما بت ليلة إلا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكره أبو نعيم في الحلية وقال في مختصر المدارك : قال الشافعي : قالت لي عمتي : ونحن بمكة رأيت في هذه الليلة عجبا ، قلت : وما هو ؟ قالت : كأن قائلا يقول : مات الليلة أعلم أهل الأرض فحسبنا تلك الليلة فإذا هي ليلة مات مالك وقال الحسن بن حمزة الجعفري : كنت أشتم مالكا فنمت فرأيت كأن الجنة فتحت قلت : ما هذا ؟ قالوا : الجنة . قلت : فما هذه الغرف ؟ قالوا : لمالك لما ضبط على الناس دينهم فلم أنتقصه بعد وكنت أكتب عنه وعن محمد بن رمح قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم فقلت : يا رسول الله قد اختلف علينا [ ص: 26 ] مالك والليث فأيهما أعلم ؟ فقال : مالك ورث وجدي ، قال أبو نعيم : معناه وارث علمي ، انتهى . وقال ابن رشد في المقدمات في كتاب السرقة : لما تكلم على مسألة اشتراك الجماعة في سرقة النصاب فرحم الله مالك بن أنس فإنه كان أمير المؤمنين في الرأي والآثار وأعرف الناس بالقياس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، انتهى . وقال أبو بكر بن سعدون سألت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام عن مسألة اختلف فيها مالك والليث فقال : رأي مالك هو الصواب وحكي في الديباج عن المدارك عن الإمام مالك أنه قال : جالست ابن هرمز ثلاث عشرة سنة ويروى ست عشرة سنة في علم لم أبثه لأحد من الناس ومذهبه رضي الله عنه مبني على سد الذرائع واتقاء الشبهات فهو أبعد المذاهب عن الشبه ونقل ابن سهل عن بعضهم أنه قال : كل من زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن رين على قلبه وزين له سوء عمله فقد رأيت في أقاويل الفقهاء ورأيت ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا فلم أر مذهبا أنقى ولا أبعد من الزيغ من مذهب مالك وجل من يعتقد مذهبا من المذاهب فيهم الخارجي والرافضي إلا مذهب مالك فما سمعت أن أحدا ممن يقلده قال بشيء من هذه البدع فالاستمساك به نجاة إن شاء الله . ( قلت ) وفي أول هذا الكلام بشاعة ظاهرة ولا يحل لمسلم أن يعتقد ما قاله فإن الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم على هدى من ربهم وكل من قلد واحدا منهم فهو على هدى من ربه ولعل هذا القائل إنما تكلم على بلاد المغرب فإنه ليس عندهم إلا مذهب مالك وكل من خرج عنه عندهم فلا يكون إلا من الخوارج ( وإنما نقلته ) لأنبه على ما فيه والله سبحانه وتعالى يعصمنا من الزلل ويوفقنا في القول والعمل بمنه وكرمه وأما ما ذكره آخرا أعني قوله : فما سمعت أن أحدا ممن يقلده قال بشيء من هذه البدع ، فهو كلام صحيح قال السبكي في مفيد النعم ومبيد النقم : وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة يد واحدة كلهم على رأي أهل السنة والجماعة يدينون بطريقة شيخ السنة أبي الحسن الأشعري لا يحيد عنها إلا رعاع من الحنفية والشافعية لحقوا بأهل الاعتزال ورعاع من الحنابلة لحقوا بأهل التجسيم ، وبرأ الله المالكية فلم ير مالكي إلا أشعري العقيدة ثم قال في آخر كلامه : يخاطب أهل المذاهب الأربعة . وأما تعصبكم في فروع الدين وحملكم الناس على مذهب واحد فهو الذي لا يقبله الله منكم ولا يحملكم عليه إلا محض التعصب والتحاسد ولو أن الشافعي وأبا حنيفة ومالكا وأحمد أحياء يرزقون لشددوا النكير عليكم وتبرءوا منكم فيما تفعلون انتهى وقال الإمام أحمد بن حنبل : إذا رأيت الرجل ينقص مالكا فاعلم أنه مبتدع قال أبو داود وأخشى عليه من البدعة وقال ابن مهدي : إذا رأيت الحجازي يحب مالكا فاعلم أنه صاحب سنة وإذا رأيت أحدا يتناوله فاعلم أنه على خلاف ذلك قال في الديباج : وكان ربيعة إذا جاء مالك يقول : جاء العاقل واتفقوا على أنه كان أعقل أهل زمانه وقال أحمد بن حنبل : قال مالك : ما جالست سفيها قط . وهذا أمر لم يسلم منه غيره ولا في فضائل العلماء أجل من هذا وذكر يوما شيئا فقيل له : من حدثك بهذا ؟ فقال : إنا لم نجالس السفهاء وقد عد القاضي عياض في المدارك بالترجيح مذهب مالك وبين الحجة في وجوب تقليده ورجح ذلك من طريق النقل والاعتبار فلينظر ذلك فيه وذكر القاضي عبد الوهاب في آخر المعونة شيئا من ذلك . وقال ابن ناجي في شرح الرسالة : اختار الشيخ مذهب مالك ; لأنه إمام دار الهجرة وهو المعني بالحديث وذكره ثم قال ولأنه جمع بين شرفي الحديث والفقه وغيره من أئمة الدين إما فقيه صرف كالشافعي وأبي حنيفة ليس لهما ذكر عند الصحيحين . وإما محدث صرف كأحمد وداود انتهى . وهو مأخوذ من كلام القاضي عياض في المدارك . وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة : يكفي في [ ص: 27 ] أرجحيته كونه إمام دار الهجرة في خير القرون ومتبوع أهل المغرب الذين لا يزالون ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة كما صح في الحديث وإن اختلفت روايته وعصم الله مذهبه من أن يكون فيه ذو هوى موسوما بالإمامة وجعله مقدما عند الكافة حتى أن كل ذي مذهب يختاره بعد مذهبه وجعل رؤساء مذهبه حجة بعده في الحديث كالفقه قد خرج لهم البخاري وما ملأ كتابه إلا بهم فهم الحجة والأئمة الأثبات الذين برزوا ولم يثبت ذلك لغيرهم وإن كان صالحا أمينا ومن طالع مناقب الأئمة الأربعة عرف علو مرتبتهم ووجوب تقديمهم على غيرهم ولزوم الاقتداء بهم وترجح عنده أحدهم على ما يتعرف من مراتبهم ويرى مع ذلك أن مالكا أعلاهم وأسناهم ألا ترى أن الشافعي تلميذه وأحمد تلميذ الشافعي ويرحم الله ابن الأثير حيث يقول : كفى مالكا شرفا أن الشافعي تلميذه وأحمد تلميذ الشافعي وكفى الشافعي شرفا أن مالكا شيخه وأما أبو حنيفة فذكر غير واحد أنه لقي مالكا وأخذ عنه شيئا من الحديث فهو إذا شيخ الكل وإمام الأئمة وكلهم على هدى وتقى وعلم وورع وزهد انتهى وقد ذكر الشيخ جلال الدين السيوطي في كتابه الذي سماه تزيين الممالك بترجمة الإمام مالك بلغني في هذه الأيام أن ثم من أنكر رواية الإمام أبي حنيفة عن الإمام مالك وعلل ذلك بكبر سنه وهذا لا يقال فقد روى عن الأئمة من هو أكبر منهم سنا وقد روى عن الإمام مالك من هو أكبر سنا من الإمام أبي حنيفة وأقدم وفاة كالزهري وربيعة وكلاهما من شيوخ مالك فإذا روى عنه شيوخه فلا يبعد أن يروي عنه أبو حنيفة الذي هو من أقرانه ورواية أبي حنيفة عن مالك ذكرها الدارقطني في كتابه وابن حجر والبخاري في مسند أبي حنيفة والخطيب البغدادي في كتاب الرواة عن مالك وذكرها من المتأخرين الحافظ مغلطاي والشيخ سراج الدين البلقيني وقال الزركشي في نكته : صنف الدارقطني جزءا في الأحاديث التي رواها الإمام أبو حنيفة عن الإمام مالك قال : وقال الحنفية : أجل من روى عن مالك أبو حنيفة انتهى . وقد ذكر القاضي عياض أيضا في المدارك رواية الإمام مالك قال : وروى عنه الأئمة الأجلاء من شيوخه وغيرهم فمن شيوخه من التابعين محمد بن شهاب الزهري ومات قبل مالك بخمس وخمسين سنة وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومات قبله بثلاث وأربعين سنة وهشام بن عروة بن الزبير بن العوام ، ومن شيوخه من غير التابعين نافع بن أبي نعيم القاري قرأ مالك عليه القرآن وروى هو عن مالك وابن أبي ذئب وسليمان بن مهران الأعمش ، ومن أقرانه سفيان الثوري والليث بن سعد المصري والأوزاعي وحماد بن أبي سلمة وسفيان بن عيينة والإمام أبو حنيفة وابنه حماد وأبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة ، ومن طبقة بعد هؤلاء المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المالكي والإمام محمد بن إدريس الشافعي ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة والوليد بن مسلم وغيرهم من مشاهير الرواة وعد القاضي رحمه الله منهم ألفا ونيفا ، قال : وتركنا كثيرا ممن لم يشتهر . وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال : ما أحد ممن نقلت عنه هذا العلم إلا اضطر إلي حتى سألني عن أمر دينه قال أبو الحسن الدارقطني : لا نعلم أحدا تقدم أو تأخر اجتمع له ما اجتمع لمالك وذلك أنه روى عنه رجلان حديثا واحدا بين وفاتيهما نحو من مائة وثلاثين سنة محمد بن شهاب الزهري شيخه توفي سنة خمس وعشرين ومائة وأبو حذافة السهمي توفي بعد الخمسين والمائتين رويا عنه حديث الفريعة بنت مالك في سكنى المعتدة وتورعه وتثبته في الفتيا مشهور وذكر أبو نعيم في الحلية عن ابن وهب قال : لو شئت أن أملأ ألواحي من قول مالك بن أنس لا أدري فعلت وعن عبد الرحمن بن مهدي [ ص: 28 ] قال : رأيت رجلا جاء إلى مالك بن أنس يسأله عن شيء أياما ما يجيبه ، فقال : يا أبا عبد الله إني أريد الخروج ، قال : فأطرق طويلا ثم رفع رأسه فقال : ما شاء الله يا هذا ، فقال : إني إنما أتكلم فيما أحتسب فيه الخير وليس أحسن مسألتك هذه . وقال ابن مهدي سأل رجل مالكا عن مسألة فقال مالك : لا أحسنها ، فقال الرجل : إني ضربت إليك من كذا وكذا لأسألك عنها ، فقال له مالك : فإذا رجعت إلى مكانك وموضعك فأخبرهم أني قلت لك : لا أحسنها .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية