الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              ( فإن حلف على ترك واجب أو فعل حرام عصى ) بالحلف ، نعم لا يعصي من حلف على ترك واجب على الكفاية لم يتعين عليه أو يمكن سقوطه كالقود يسقط بالعفو كما بحثهما البلقيني واستدل لثانيهما بقول أنس بن النضر : والله لا تنكسر ثنية الربيع ، ( ولزمه الحنث ) ؛ لأن الإقامة على هذه الحالة معصية ( وكفارة ) ، ومثله لو حلف بالطلاق ليصومن العيد فيلزمه الحنث ويقع عليه الطلاق ، لكن مع غروبه لاحتمال موته قبله ، ولو كان له طريق غير الحنث كلا ينفق على زوجته لم يلزمه إذ يمكنه إعطاؤها من صداقها [ ص: 14 ] أو قرضها ثم إبراؤها ( أو ) على ( ترك مندوب ) كنافلة ( أو فعل مكروه ) كاستعمال متشمس ( سن حنثه وعليه كفارة ) ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال : { من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه } رواه الشيخان ، وإنما { أقر صلى الله عليه وسلم الأعرابي على قوله : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص } ؛ لأن يمينه تضمنت طاعة وهو امتثال الأمر ( أو ) على فعل مندوب أو ترك مكروه كره حنثه ، أو على ( ترك مباح أو فعله ) كدخول دار وأكل طعام كلا تأكله أنت وكلا آكله أنا ، وقول البغوي يسن الأكل في الثانية ضعيف ، وذكر لا تأكله أنت هو ما وقع لشارح ، وهو غفلة عما مر أنه يندب إبرار الحالف بشرطه ، ( فالأفضل ترك الحنث ) إبقاء لتعظيم الاسم ، نعم إن كان من شأنه تعلق غرض ديني بفعله أو تركه كلا يأكل طيبا أو لا يلبس ناعما فإن قصد التأسي بالسلف أو الفراغ للعبادة فهي طاعة فيكره الحنث فيها ، وإلا فهي مكروهة فيندب فيها الحنث ، ( وقيل ) : الأفضل ( الحنث ) لينتفع المساكين بالكفارة .

                                                                                                                              وبحث الأذرعي أنه لو كان في عدم الحنث أذى للغير كأن حلف لا يدخل أو لا يأكل أو لا يلبس كذا ، ونحو صديقه يكرهه ، كان الأفضل الحنث قطعا . ( تنبيه )

                                                                                                                              قال الإمام لا يجب اليمين مطلقا ، واعترضه الشيخ عز الدين بوجوبها فيما لا يباح بالإباحة كالنفس والبضع إذا تعينت للدفع عنه ، قال : بل الذي أراه وجوبها لدفع يمين خصمه الغموس على مال ، وإن أبيح بالإباحة ا هـ . والأوجه في الأخير عدم الوجوب .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              حاشية ابن قاسم

                                                                                                                              ( قوله : أو يمكن سقوطه ) كالقود وظاهر أنه يعصي إن قصد بالحلف الامتناع منه ، وإن امتنع مستحقه من العفو . ( قوله : فيلزمه الحنث ) هذا يدل على تناول الصوم في الإثبات للصوم الفاسد إذا أضيف إلى ما لا يقبله . ( قوله : لاحتمال موته قبله ) أي : فيتبين عجزه عنه فلا حنث إذ يمكنه إعطاؤها . ( قوله : من صداقها إلخ ) الظاهر أن النفقة مع ذلك باقية في ذمته ويتضح فائدة هذا الطريق فيما إذا حلف على عدم الإنفاق مدة عينها فيرتكب هذا الطريق إلى انقضائها حتى لا يحنث بقي إذا طالبته بخصوص النفقة وامتنعت من قبول القرض وقبول الصداق أو طالبته به أيضا وكان قادرا فينبغي [ ص: 14 ] أن يلزمه الدفع ، وإن حنث فليتأمل . ( قوله وإنما أقر صلى الله عليه وسلم الأعرابي على قوله والله لا أزيد ) عما لا يشرع أو على أنه واجب . ( قوله : وهو غفلة عما مر أنه يندب إلخ ) قد يصدق حينئذ أن ترك الحنث أفضل فلا غفلة .

                                                                                                                              ( قوله : إذا تعينت للدفع عنه ) بأن علم أو غلب على ظنه أنه إذا نكل حلف خصمه ، فإن علم أو غلب على ظنه أنه إذا نكل لا يحلف تخير هو بين الحلف وتركه على حنث حائز ، وخرج بالحنث اليمين فلا يجوز التقديم عليها ؛ [ ص: 15 ] لأنه تقديم على السببين ومنه لو قال : إن دخلت الدار فوالله لا أكلمك ثم نجز التكفير قبل دخولها ؛ لأن اليمين لم تنعقد بعد صرح به البغوي وغيره ، وكما لا يجوز تقديمها على السببين لا يجوز مقارنتها لليمين حتى لو وكل من يعتقه عنها مع شروعه في اليمين لم يجز بالاتفاق قاله الإمام شرح الروض



                                                                                                                              حاشية الشرواني

                                                                                                                              ( قول المتن فإن حلف على ترك واجب إلخ ) ولو حلف على فعل واجب أو ترك حرام أطاع باليمين وعصى بالحنث وعليه به الكفارة . ا هـ مغني . ( قوله : أو يمكن سقوطه إلخ ) عطف على الكفاية لا على لم يتعين عبارة المغني واستثنى البلقيني من الصورة الأولى مسألتين : الأولى الواجب الذي يمكن سقوطه كالقصاص بعد الحكم به فإنه يمكن سقوطه بالعفو ، الثانية الواجب على الكفاية ، كما لو حلف لا يصلي على فلان الميت حيث لم تتعين عليه فإنه لا يعصي بهذا الحلف ا هـ .

                                                                                                                              ( قوله : ثنية الربيع ) الربيع اسم امرأة وجب عليها ذلك بجناية منها ا هـ ع ش . ( قول المتن ولزمه الحنث ) انظر متى يتحقق حنثه في فعل الحرام هل هو بالموت أو بعزمه على أن لا يفعل فيه نظر والأقرب الأول ، ولكنه يجب عليه العزم على عدم الفعل والندم على الحلف ليخلص بذلك من الإثم ، وإنما تجب الكفارة بعد الموت وينبغي أن يعجلها بعد الحلف مسارعة للخير ما أمكن ا هـ ع ش . ( قوله : لاحتمال موته قبله ) أي : فيتبين عجزه عنه فلا حنث ا هـ سم .

                                                                                                                              ( قوله : من صداقها إلخ ) الظاهر أن النفقة مع ذلك باقية في ذمته وتتضح فائدة هذا الطريق فيما إذا حلف على عدم الإنفاق مدة معينة فيرتكب هذا الطريق إلى انقضائها حتى لا يحنث ، بقي إذا طالبته بخصوص النفقة وامتنعت من قبول القرض وقبول الصداق ، أو طالبته به أيضا وكان قادرا فينبغي أن يلزمه الدفع ، وإن حنث فليتأمل ا هـ . سم عبارة السيد عمر وليتأمل في هذه المسألة ؛ لأن ما ذكر ليس فيه سقوط للواجب فهو مع ما ذكر آثم بترك الواجب

                                                                                                                              نعم لو زيد في التصوير إبراؤها من نفقة كل يوم بعد استقرارها ، وفيه شيء إذ لا يرفع إثم التأخير ، نعم إن نذرت له بنفقتها سقط الإثم إن لم يكن في كلامهم ما يمنع منه فإن النذر يصح بالمعدوم ويقبل الجهالة ثم رأيت في تعليقة منسوبة [ ص: 14 ] لصاحب المغني صورتها أقول في هذا نظر ؛ لأنه ولو أعطاها من صداقها أو أقرضها لا يسقط وجوب النفقة والإنفاق فالأولى أن يمثل لذلك بنفقة القريب فإنه إذا أقرضه استغنى فسقط وجوب النفقة ، وقد يقال في مسألة الزوجة له مندوحة بأن يوكل في ذلك اللهم إلا أن يقول : لا بنفسي ولا بوكيلي فليس له مندوحة انتهت ا هـ . ( قوله أو قرضها ثم إبراؤها ) عطف على إعطاؤها عبارة النهاية والمغني أو يقرضها ثم يبرئها ا هـ .

                                                                                                                              ( قوله : كنافلة ) أي كسنة الظهر . ( قوله : لأنه صلى الله ) إلى الفصل في النهاية إلا قوله : كلا تأكله إلى المتن ، وقوله : والأوجه إلى المتن ، وقوله : ووقع إلى لأن القاعدة .

                                                                                                                              ( قوله : وإنما أقر ) إلى قوله كلا تأكله في المغني . ( قوله : على هذا ) أي : الصلوات الخمس ا هـ ع ش . ( قوله : لأن يمينه إلخ ) ويحتمل أنه سبق لسانه إلى قوله : لا أزيد فكان من لغو اليمين ا هـ مغني عبارة سم ويحتمل أنه أراد لا أزيد مما لا يشرع أو على أنه واجب ا هـ . ( قوله : كدخول دار إلخ ) مثال لفعل مباح ، وقوله : كلا تأكله إلخ مثال لتركه فكان الأولى العطف . ( قوله : في الثانية ) أي : لا آكله أنا . ( قوله : وهو غفلة عما مر إلخ ) قد يصدق حينئذ أن ترك الحنث أفضل فلا غفلة . ا هـ سم . ( قوله : إبقاء ) إلى قول المتن قيل في المغني إلا قوله : أي غير حرام إلى للخبر ، وقوله : ومر إلى أما الصوم . ( قوله : وبحث الأذرعي أنه إلخ ) عبارة النهاية والأقرب كما بحثه الأذرعي إلخ . ( قوله : كأن حلف إلخ ) عبارة المغني كأن حلف لا يدخل دار أحد أبويه أو أقاربه أو صديق يكره ذلك فالأفضل الحنث قطعا ، وعقد اليمين على ذلك مكروه بلا شك ، وكذا حكم الأكل واللبس . ( تنبيه )

                                                                                                                              قد علم مما تقرر أن اليمين لا تغير حال المحلوف عليه عما كان وجوبا وتحريما وندبا وكراهة وإباحة ، لكن قول المتن في المباح : الأفضل ترك الحنث فيه تغيير للمحلوف عليه ؛ ولذلك رجح بعضهم أن فيه التخيير بين الحنث وعدمه فيكون جاريا على القاعدة ا هـ . ( قوله : مطلقا ) عبارة المغني أصلا لا على المدعي ولا على المدعى عليه ا هـ . ( قوله : واعترضه الشيخ إلخ ) عبارة المغني وأنكره الشيخ عز الدين وقال : إذا كان المدعي كاذبا في دعواه وكان المدعى به مما لا يباح بالإباحة كالدماء والأبضاع فإن علم المدعى عليه أن خصمه لا يحلف إذا نكل فيخير إن شاء حلف ، وإن شاء نكل ، وإن علم أو غلب على ظنه أنه يحلف وجب عليه الحلف فإن كان يباح بالإباحة وعلم أو ظن أنه لا يحلف فيتخير أيضا وإلا فالذي أداه وجوب الحلف دفعا لمفسدة كذب الخصم ا هـ . وينبغي أن لا يجب عليه في هذه الحالة ا هـ .

                                                                                                                              ( قوله : للدفع عنه ) بأن علم أو غلب على ظنه أنه إذا نكل حلف خصمه فإن علم أو غلب على ظنه أنه إذا نكل لا يحلف تخير هو بين الحلف وتركه سم .

                                                                                                                              ( قوله : والأوجه إلخ ) عبارة النهاية وهو أي : ما قاله الشيخ عز الدين ظاهر ؛ لأنه إعانة على معصية وهو متمكن من ترك الحلف والتحليف ورفع المطالبة ، وإن زعم بعضهم أن الأوجه في الأخير عدم الوجوب إلا أن يحمل على عدم وجوب تعينه . ا هـ وليتأمل حاصل ما فيها ثم الذي يظهر التفصيل بين طبقات الناس فمن يستشعر من نفسه طيبتها بالإباحة والإسقاط باطنا لم تجب عليه وإلا وجب تخليصا للغريم عن المعصية إذ لا يحل باطنا إلا مع طيبة النفس كالمدفوع لفقير لنحو حياء انتهى . ا هـ سيد عمر




                                                                                                                              الخدمات العلمية