الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              ( الرحمن ) هو صفة في الأصل بمعنى كثير الرحمة جدا [ ص: 9 ] ثم غلب على البالغ في الرحمة والإنعام بحيث لم يسم به غيره تعالى وغلبة علميته المقتضية لإعرابه بدلا هنا لا تمنع اعتبار وصفيته فيجوز كونه نعتا باعتبارها لوقوعه صفة ولكونه بإزاء المعنى ومجيئه غير تابع للعلم بحذف موصوفه ، ويجوز صرفه وعدمه لتعارض سببيهما ( الرحيم ) أي ذي الرحمة الكثيرة [ ص: 10 ] فالرحمن أبلغ منه بشهادة الاستعمال ولا يعارضه الحديث الصحيح { يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما } والقياس لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى غالبا وجعل كالتتمة لما دل على جلائل الرحمة الذي هو المقصود الأعظم لئلا يغفل عما دل عليه من دقائقها فلا يسأل ولا يعطي ومن حيز التدلي لأن الأول صار كالعلم كما تقرر وكلاهما صفة مشبهة من رحم بكسر عينه بعد نقله إلى رحم بضمها [ ص: 11 ] أو تنزيله منزلته والرحمة ميل نفساني أريد بها لاستحالتها في حقه تعالى غايتها من الإنعام أو إرادته وكذا كل صفة استحال معناها في حقه تعالى

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              حاشية الشرواني

                                                                                                                              ( قوله بمعنى كثير الرحمة جدا ) اعلم أنهم عبروا بأن الرحمن الرحيم اسمان بنيا للمبالغة وقد توهم إشكاله بأنهما ليسا من أمثلة المبالغة الخمسة ولا إشكال ؛ لأن ما ينحصر في الخمسة هو ما يفيد المبالغة بالصيغة ، وما هنا مما يفيدها بالمادة [ ص: 9 ] فإن قلت قد يشكل الحصر في الخمسة بقولهم إن نحو الترحال والتحوال والترداد بفتح التاء في الجميع مصادر للمبالغة والتكثير قلت لا إشكال لأن تلك الخمسة لأسماء الفاعلين لا مطلقا فليتأمل سم عبارة الصبان وأورد على قولهم موضوعتان للمبالغة أمور : الأول أن صيغ المبالغة محصورة في خمس فعال ومفعال وفعول وفعل وفعيل العامل نصبا والصفتان المذكورتان ليستا منها أما الرحمن فظاهر وأما الرحيم فلأنه هنا غير عامل نصبا ، وأجيب بأن المحصور في الخمسة ما يفيد المبالغة إلخ على أنه قد يمنع كونهم قصدوا الحصر في الخمس الثاني أن المبالغة هي أن تنسب للشيء أكثر مما هو له ، وهذا لا يتأتى في صفاته تعالى لأنها في نهاية الكمال وأجيب بأن المبالغة المفسرة بما ذكر هي المبالغة البيانية وليست مرادة هنا حتى يتوجه الاعتراض بل المراد بالمبالغة هنا قوة المعنى أو كثرة أفراده .

                                                                                                                              الثالث أن وضعهما للمبالغة ينافي كونهما صفتين مشبهتين لأن الصفة المشبهة للدوام والمبالغة كثرة الأفراد المتجددة أقول يمكن دفعه بأن المراد بكونهما صفتين مشبهتين أنهما على صورة الصفة المشبهة ، وبأنه لا مانع من أن يراد بالدوام المستفاد من الصفة المشبهة بطريق غلبة الاستعمال ما يشمل دوام تجدد الأفراد ، وقد رجح الشهاب أي الخفاجي كونهما من أبنية المبالغة وضعف كونهما من الصفة المشبهة حقيقة بما يطول فانظره في حواشيه ا هـ .

                                                                                                                              ( قوله : ثم غلب إلخ ) أي غلبة تقديرية ( قوله على البالغ في الرحمة ) أي بجلائل النعم في الدنيا والآخرة غايتها ( قوله بحيث لم يسم به غيره تعالى ) أي وتسمية أهل اليمامة مسيلمة به تعنت في الكفر فخرجوا بمبالغتهم في الكفر عن منهج اللغة حتى استعملوا المختص بالله تعالى في غيره ، وقيل إنه شاذ لا اعتداد به ، وقيل المختص بالله تعالى المعرف باللام ومذهب العز بن عبد السلام أنه مختص به تعالى شرعا قال الصبان وهو الراجح عندي ؛ لأنه لا إشكال عليه ا هـ .

                                                                                                                              ( قوله وغلبة علميته ) مبتدأ وقوله المقتضية صفته وقوله لا تمنع إلخ خبره ( قوله بدلا ) أي أو بياناصبان ( قوله اعتبار وصفيته ) أي الأصلية ( قوله لوقوعه صفة إلخ ) علة لقوله هو صفة في الأصل عبارة الصبان وكون الرحمن صفة هو ما ذهب إليه الجمهور لوقوعه نعتا ، ولأن معناه البالغ في الرحمة لا الذات المخصوصة ، ولأنه لو كان علما لأفاد لا إله إلا الرحمن التوحيد صريحا كلا إله إلا الله ، وذهب الأعلم وابن مالك وابن هشام إلى أنه علم أي بالغلبة كما في ابن عبد الحق واستدلوا بمجيئه كثيرا غير تابع كما في { الرحمن علم القرآن } { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن } ورد بأنه ينتج أعم من المدعي ولا ينتج المدعي إلا بمعونة أنه لا قائل بأنه ليس بعلم ولا صفة مع أن كلام الرصاع يفيد أنه من الصفات التي غلب عليها الاسمية ، وليس بعلم كأبطح وأجرع والنعت به باعتبار وصفيته الأصلية ، وأما رد استدلالهم بجواز تبعيته في مثل هذه الآيات لموصوف مقدر لجواز حذف الموصوف إذا علم فضعفه بعضهم بأن حذف الموصوف قليل بالنسبة إلى ذكره واستدلالهم إنما هو بكثرة مجيئه غير تابع ا هـ وعلم بذلك أن مجيء الرحمن غير تابع دليل ومقو لما ذهب إليه الأعلم ومن معه الذي إليه ميل كلام النهاية والمغني .

                                                                                                                              وكلام الشارح صريح في أنه علم بالغلبة فرد الشارح له بأنه للعلم بحذف موصوفه لو سلم عليه لا له ( قوله للعلم بحذف موصوفه ) أقول أو بالنظر لعلميته الغالبة سم ( قوله ويجوز صرفه وعدمه ) هما قولان سم فمن يقول إن شرط الألف والنون في الصفة انتفاء فعلانة يمنع صرفه ومن يقول إنه وجود فعلي يصرفه قالالصبان ، والتحقيق الذي اختاره الزمخشري والبيضاوي أن رحمن مجردا من أل ممنوع من الصرف إلحاقا له بالغالب في بابه قال السيوطي وهذه المسألة مما تعارض فيه الأصل والغالب في النحو ، ومال السعد إلى جواز صرفه وعدمه عملا بالأمرين قال العصام فإن قلت كيف اشتبه حال رحمن على هؤلاء الأعلام من علماء اللغة والنحو والبيان حتى بنوا أمرهم فيه على المعقول ، ولم يعثر أحد منهم على المنقول ، ولم يكشف عن المعمول عند البلغاء قلت كأنهم لم يجدوه مستعملا فيما نقل عن [ ص: 10 ] العرب إلا معرفا باللام أو مضافا أو منادى ا هـ وأما

                                                                                                                              وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

                                                                                                                              فلا شاهد فيه ؛ لأنه يحتمل المنع فتكون ألفه للإطلاق والصرف فتكون ألفه بدلا من التنوين ا هـ .

                                                                                                                              ( قوله فالرحمن أبلغ إلخ ) متفرع على إطلاق تفسير الرحيم وتقييد تفسير الرحمن بقوله جدا ، ولكن المناسب لقوله بشهادة إلخ الواو بدل الفاء كما في غيره لئلا تتوارد علتان على معلول واحد بلا تبعية ( قوله ولا يعارضه الحديث الصحيح إلخ ) أي ؛ لأن استواءهما في تعلق كل منهما بالدارين لا ينافي أن أحدهما أبلغ وأزيد معنى سم عبارة الصبان لاحتمال أن تكون أبلغية الرحمن باعتبار الكيف فقط ، وأنه تعالى من حيث إنعامه بالنعم العظيمة رحمن ومن حيث إنعامه بما دونها رحيم ويؤيده تفسير كثير من العلماء الرحمن بالمنعم بجلائل النعم والرحيم بالمنعم بدقائقها وبعضهم الرحمن بالمنعم بما لا يتصور جنسه من العباد والرحيم بالمنعم بما يتصور جنسه منهم ا هـ ( قوله والقياس ) أشار بالتضبيب إلى أنه عطف على الاستعمال سم ( قوله لأن زيادة البناء إلخ ) هذه القاعدة مشروطة بشروط ثلاثة أن يكون ذلك في غير الصفات الجبلية فخرج نحو شره ونهم ، وأن يتحد اللفظان في النوع فخرج حذر وحاذر وأن يتحدا في الاشتقاق فخرج زمن وزمان إذ لا اشتقاق فيهما بجيرمي ( قوله غالب ) احترز به عن نحو حذر وحاذر ؛ لأن الأول صفة مشبهة تدل على الدوام والاستمرار أو صيغة مبالغة والثاني اسم فاعل لا يدل إلا على الاتصاف بمضمونه ولو مرة ( قوله وجعل إلخ ) جواب عما قيل لم قدم الرحمن على الرحيم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى عبارة المغني وقدم الله عليهما ؛ لأنه اسم ذات وهما اسما صفة والرحمن على الرحيم ؛ لأنه خاص إذ لا يقال لغير الله بخلاف الرحيم والخاص مقدم على العام ، وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى كقولهم عالم نحرير لأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره تعالى لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها ، وذلك لا يصدق على غيره تعالى ولذلك رجح جماعة أنه علم ولأنه لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم كالتابع والتتمة ليتناول ما دق منها ولطف فليس من باب الترقي بل من باب التعميم والتكميل وللمحافظة على رءوس الآي ( فائدة )

                                                                                                                              قال النسفي في تفسيره قيل الكتب المنزلة من السماء إلى الدنيا مائة وأربعة صحف شيث ستون وصحف إبراهيم ثلاثون وصحف موسى قبل التوراة عشرة والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان ومعاني كل الكتب أي غير القرآن مجموعة في القرآن ومعاني كل القرآن مجموعة في الفاتحة ومعاني الفاتحة مجموعة في البسملة ومعاني البسملة مجموعة في بائها ومعناها أي الإشاري بي كان ما كان وبي يكون ما يكون زاد بعضهم ومعاني الباء في نقطتها ا هـ قال شيخنا ، والمراد بها أول نقطة تنزل من القلم التي يستمد منها الخط لا النقطة التي تحت الباء خلافا لمن توهمه ومعناها الإشاري أن ذاته تعالى نقطة الوجود المستمد منها كل موجود ا هـ .

                                                                                                                              ( قوله لما دل إلخ ) اللام متعلق بالتتمة وما كناية عن الرحمن ( قوله ومن التدلي ) أشار بالتضبيب إلى أنه عطف على قوله كالتتمة سم ولعل المراد بالتدلي هنا مقابل الترقي أي التنزل من الأعلى إلى الأدنى ، وقال الكردي قوله ومن حيز التدلي وهو أي التدلي القرب والمقارنة ، أي ولئلا يغفل عن مكان المقارنة بين المتناسبين فهو دليل ثان لتأخير الرحيم وجعله كالتتمة للرحمن ، والمراد أخره ليقارن النظير وهو لفظ الرحمن بالنظير ، وهو لفظ الله وإلا فالقياس تقديمه للترقي من الأدنى إلى الأعلى ا هـ وقضيته أن قول الشارح ومن حيز التدلي عطف على قوله ما دل عليه إلخ قد تقدم خلافه عن سم عن الشارح ( قوله : لأن الأول إلخ ) أقول ولرعاية الفواصل باعتبار كونها في الفاتحة ، ثم طرد في غيرها سم ( قوله كالعلم ) أي بالوضع ، وإلا فقد قدم أنه علم بالغلبة ( قوله من رحم إلخ ) أي من مصدره ، وإنما عبر بالفعل تقريبا ولضيق العبارة إذ ليس له مصدر واحد حتى يعول عليه فليس مبنيا على مذهب الكوفيين من أن الاشتقاق من الفعل رشيدي ( قوله بعد نقله [ ص: 11 ] إلخ ) أي لاطراد نقل الفعل المتعدي إلى فعل بالضم في بابي المدح والذم صبان ( قوله أو تنزيله إلخ ) عطف على نقله إلخ ( قوله منزلته ) أي في اللزوم بأن لا يعتبر تعلقه بمفعول لا لفظا ولا تقديرا كقولك زيد يعطي أي يصدر منه الإعطاء قاصدا الرد على من نفى عنه أصل الإعطاء صبان .

                                                                                                                              ( قوله ميل نفساني إلخ ) عبارة المغني والنهاية رقة في القلب تقتضي التفضل والإحسان ، فالتفضل غايتها وأسماء الله تعالى المأخوذة من نحو ذلك إنما تؤخذ باعتبار الغايات دون المبادئ التي تكون انفعالات ، فرحمة الله تعالى إرادة إيصال الفضل والإحسان أو نفس إيصال ذلك فهي من صفات الذات على الأول ومن صفات الفعل على الثاني ا هـ ، زاد الصبان أي فهي مجاز مرسل من إطلاق اسم السبب في المسبب القريب أو البعيد أو اسم الملزوم في اللازم القريب أو البعيد هذا أي مجازية وصفه تعالى بالرحمن الرحيم هو بحسب اللغة أما وصفه تعالى بهما بحسب الشرع فقال الأستاذ الصفوي الأقرب أنه حقيقة شرعية في الإحسان أو إرادته ا هـ .

                                                                                                                              على أن الخادمي نقل عن بعض أن من معانيها اللغوية إرادة الخير وعن بعض آخر أن منها الإحسان فعلى هذين لا تجوز أصلا فاحفظه ا هـ كلام الصبان عبارة ع ش والأولى أن يقال هو حقيقة شرعية فيما ذكر من الإحسان أو إرادته فقول م ر إما مجاز إلخ معناه بحسب أصله قبل اشتهاره شرعا فيما ذكر من الغايات ا هـ وعبارة الملا إبراهيم الكردي ، ثم المدني ولقائل أن يقول إن الرحمة التي هي من الأعراض النفسانية هي الرحمة القائمة بنا ولا يلزم من ذلك أن يكون مطلق الرحمة كذلك حتى يلزم منه كون الرحمة التي وصف بها الحق سبحانه مجازا ، ألا ترى أن العلم القائم بنا من الأعراض النفسانية وقد وصف الحق بالعلم ، ولم يقل أحد إن العلم الذي وصف به الحق مجاز مع أن علم الحق ذاتي أزلي حضوري محيط بجميع المعلومات وعلمنا مجعول حادث حصولي غير محيط ، وكذلك القدرة القائمة بنا من الأعراض النفسانية ولم يقل أحد إن وصف الحق بالقدرة مجاز مع أن قدرته تعالى ذاتية أزلية شاملة لجميع الممكنات وقدرتنا مجعولة حادثة غير شاملة وعلى هذا القياس الإرادة وغيرها فلم لا يجوز أن تكون الرحمة حقيقة واحدة هي العطف ، ثم العطف تختلف وجوهه وأنواعه بحسب اختلاف الموصوفين به فإذا نسب إلينا كان كيفية نفسانية وإذا نسب إلى الله تعالى كان على حسب ما يليق بجلال ذاته من نحو الإنعام أو إرادته ، كما أن العلم ونحوه حقيقة واحدة إذا نسبت إلينا كانت كيفية نفسانية ، وإذا نسبت إلى الحق كانت كما تليق بجلال ذاته .

                                                                                                                              ويؤيد ما ذكرناه أن الأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة ولا تتعذر إلا إذا دل دليل على أن الرحمة مطلقا منحصرة في الكيفية النفسانية وضعا ودونه خرط القتاد ، وهذه نكتة من تنبه لها لم يحتج إلى التكلفات في تأويل أسماء الله تعالى مما ورد إطلاقها على الله في كتاب أو سنة ا هـ .

                                                                                                                              ( قوله لاستحالتها ) أي بهذا المعنى سم ( قوله وكذا كل صفة استحال إلخ ) أي كالغضب والرضا والمحبة والحياء والفرح والحزن والمكر والخداع والاستهزاء إنما تؤخذ باعتبار الغاية ع ش وصبان




                                                                                                                              الخدمات العلمية