الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            خلق آدم عليه السلام

            لما أراد الله تعالى أن يطلع ملائكته على ما علم من انطواء إبليس على الكبر ولم يعلمه الملائكة حتى دنا أمره من البوار وملكه من الزوال ، فقال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة . أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضا ، كما قال : وهو الذي جعلكم خلائف الأرض [ الأنعام : 165 ] . وقال : ويجعلكم خلفاء الأرض [ النمل : 62 ] . فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته ، كما يخبر بالأمر العظيم قبل كونه . فقالت الملائكة سائلين على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمة لا على وجه الاعتراض والتنقص لبني آدم والحسد لهم ، كما قد يتوهمه بعض جهلة المفسرين : قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء . قيل : علموا أن ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الحن والبن . قاله قتادة .

            وقال عبد الله بن عمر كانت الحن والبن قبل آدم بألفي عام ، فسفكوا الدماء فبعث الله إليهم جندا من الملائكة فطردوهم إلى جزائر البحور وروي عن ابن عباس أن الملائكة قالت ذلك للذي كانوا عهدوا من أمره وأمر الجن الذين كانوا سكان الأرض قبل ذلك ، فقالوا لربهم تعالى : أتجعل فيها من يكون مثل الجن الذين كانوا يسفكون الدماء فيها ويفسدون ويعصونك ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ فقال الله لهم : إني أعلم ما لا تعلمون ، يعني من انطواء إبليس على الكبر والعزم على خلاف أمري واغتراره ، وأنا مبد ذلك لكم منه لتروه عيانا . خلق آدم عليه السلام فلما أراد الله أن يخلق آدم بعث الله -عز وجل- جبرئيل إلى الأرض ليأتيه بطين منها ، قالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني ، فرجع ولم يأخذ ، وقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها . فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها ، فبعث ملك الموت فعاذت منه ، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ، ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض وخلط ، فلم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين . فصعد به ، فبل التراب حتى عاد طينا ، ثم ترك حتى تغير وأنتن ، وهو قوله: من حمإ مسنون ، قال: منتن .

            وقد روى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال: بعث رب العزة إبليس فأخذ من أديم الأرض ، ومن عذبها ومن ملحها ، فخلق آدم ، فمن ثم سمي آدم ، لأنه خلق من أديم الأرض ، ومن ثم قال إبليس: أأسجد لمن خلقت طينا ، أي هذه الطينة أنا جئت بها .

            وعن ابن مسعود ، قال: إن الله بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها ، فخلق منه آدم ، فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة وإن كان ابن كافر ، وكل شيء خلقه من مالحها فهو صائر إلى النار وإن كان ابن نبي . قال: فمن ثم قال إبليس: أأسجد لمن خلقت طينا ، لأنه جاء بالطينة ، وسمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض .

            وعن أبي موسى ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، قال: "إن الله -عز وجل- خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، جاء منهم الأبيض ، والأحمر ، والأسود ، وبين ذلك ، والخبيث ، والطيب ، والسهل ، والحزن وبين ذلك" .

            وعن أبي لبابة البدري ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، قال: " سيد الأيام يوم الجمعة ، وأعظمها عنده ، وأعظم عند الله -عز وجل- من يوم الفطر ويوم الأضحى ، وفيه خمس خلال: خلق الله تبارك وتعالى فيه آدم ، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض ، وفيه توفي آدم ، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئا إلا أتاه الله إياه ما لم يسأل حراما ، وفيه تقوم الساعة ، ما من ملك مقرب في السماء والأرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهن يستغفرون من يوم الجمعة" .

            . ترك آدم أربعين ليلة جسدا لا روح فيه فلما صور الله تعالى آدم تركه أربعين ليلة جسدا ملقى لا روح فيه ، هكذا رواه الضحاك عن ابن عباس .

            وقال السدي عن أشياخه: بقي جسدا بين طين وماء أربعين سنة . والمراد بذلك من أعوامنا .

            وقد روى أبو عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي ، قال: خمر الله -عز وجل- طينة آدم أربعين يوما . فعلى هذا يكون التخمير قبل التصوير .

            وقد روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، أنه قال: "في يوم الجمعة خلق آدم" .

            وقال مجاهد : خلق بعد كل شيء آخر النهار من يوم الجمعة . وروى السدي عن أشياخه ، قال: لما أراد الله -عز وجل- أن ينفخ فيه الروح ، قال للملائكة: فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . فنفخ فيه الروح فدخل فيه الروح من رأسه فعطس ، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله ، فقال: الحمد لله ، فقال الله: رحمك ربك ، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان ، فذلك قوله: خلق الإنسان من عجل . فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس .

            وروى الضحاك ، فقال: أتته النفخة من قبل رأسه ، فجعل لا يجري في شيء من جسده إلا صار لحما ودما ، فلما انتهت النفخة إلى سرته فنظر إلى جسده فأعجبه ، فذهب لينهض فلم يقدر ، فلما تمت النفخة عطس ، فقال: الحمد لله ، فقال له ربه: يرحمك ربك .

            وعن أنس بن مالك ، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- لما صور آدم تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك" .

            وعن أبو هريرة ، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " خلق الله -عز وجل- آدم على صورته ، طوله ستون ذراعا ، فلما خلقه قال له: اذهب فسلم على أولئك النفر - وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك ، فقال: السلام عليكم ، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فزادوه ورحمة الله ، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله فلم يزل الخلق ينقص بعد" . هذا حديث متفق عليه ،

            التالي السابق


            الخدمات العلمية