الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            اختلفت الأقوال فيهم ، والصحيح أنهم نوع من الترك لهم شوكة وفيهم شر ، وهم كثيرون ، وكانوا يفسدون فيما يجاورهم من الأرض ، ويخربون ما قدروا عليه من البلاد ، ويؤذون من يقرب منهم .

            وقيل هم من ذرية آدم بلا خلاف نعلمه ، ثم الدليل على ذلك ، ما ثبت في " الصحيحين " من طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم ، قم فابعث بعث النار من ذريتك . فيقول : يا رب ، وما بعث النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة . فحينئذ يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد . قالوا : يا رسول الله ، أينا ذلك الواحد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشروا ; فإن منكم واحدا ، ومن يأجوج ومأجوج ألفا وفي رواية : فقال : أبشروا فإن فيكم أمتين ; ما كانتا في شيء إلا كثرتاه - أي غلبتاه - كثرة وهذا يدل على كثرتهم ، وأنهم أضعاف الناس مرارا عديدة . ثم هم من ذرية نوح ; لأن الله تعالى أخبر أنه استجاب لعبده نوح في دعائه على أهل الأرض بقوله : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] . وقال تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة [ العنكبوت : 15 ] . وقال : وجعلنا ذريته هم الباقين [ الصافات : 77 ] . وتقدم في الحديث المروي في " المسند " و " السنن " : أن نوحا ولد له ثلاثة ; وهم سام ، وحام ، ويافث ، فسام أبو العرب ، وحام أبو السودان ويافث أبو الترك ، فيأجوج ومأجوج طائفة من الترك ، وهم مغل المغول ، وهم أشد بأسا وأكثر فسادا من هؤلاء ، ونسبتهم إليهم كنسبة هؤلاء إلى غيرهم . وقد قيل : إن الترك إنما سموا بذلك حين بنى ذو القرنين السد وألجأ يأجوج ومأجوج إلى ما وراءه ، فبقيت منهم طائفة لم يكن عندهم كفسادهم فتركوا من ورائه . فلهذا قيل لهم : الترك .

            ومن زعم أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم ، فاختلطت بتراب فخلقوا من ذلك ، وأنهم ليسوا من حواء ، فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النواوي ، في " شرح مسلم " وغيره ، وضعفوه ، وهو جدير بذلك ; إذ لا دليل عليه بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح ، بنص القرآن . وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جدا ; فمنهم من هو كالنخلة السحوق ، ومنهم من هو غاية في القصر ، ومنهم من يفترش أذنا من أذنيه ويتغطى بالأخرى ، فكل هذه أقوال بلا دليل ، ورجم بالغيب بغير برهان .

            والصحيح أنهم من بني آدم وعلى أشكالهم وصفاتهم . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن وهذا فيصل في هذا الباب وغيره . وما قيل من أن أحدهم لا يموت حتى يرى من ذريته ألفا ، فإن صح في خبر قلنا به ، وإلا فلا نرده ، إذ يحتمله العقل ، والنقل أيضا قد يرشد إليه . والله أعلم . بل قد ورد حديث مصرح بذلك ، إن صح ; قال الطبراني بسنده عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معائشهم ، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا . وإن من ورائهم ثلاث أمم : تاويل ، وتاريس ، ومنسك وهو حديث غريب جدا وإسناده ضعيف . وفيه نكارة شديدة . وأما الحديث الذي ذكره ابن جرير في " تاريخه " ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم ليلة الإسراء فدعاهم إلى الله فامتنعوا من إجابته ومتابعته ، وأنه دعا تلك الأمم التي هناك ; تاريس ، وتاويل ، ومنسك ، فأجابوه ، فهو حديث موضوع اختلقه أبو نعيم عمر بن الصبح أحد الكذابين الكبار الذين اعترفوا بوضع الحديث . والله أعلم .

            فإن قيل : فكيف دل الحديث المتفق عليه أنهم فداء المؤمنين يوم القيامة ، وأنهم في النار ، ولم يبعث إليهم رسل وقد قال الله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ؟ فالجواب أنهم لا يعذبون إلا بعد قيام الحجة عليهم ، والإعذار إليهم ، كما قال تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فإن كانوا في الزمن الذي قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم قد أتتهم رسل منهم ، فقد قامت على أولئك الحجة ، وإن لم يكن قد بعث الله إليهم رسلا ، فهم في حكم أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة . وقد دل الحديث المروي من طرق عن جماعة من الصحابة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن من كان كذلك يمتحن في عرصات القيامة ، فمن أجاب الداعي دخل الجنة ، ومن أبى دخل النار . وقد أوردنا الحديث بطرقه وألفاظه ، وكلام الأئمة عليه في تفسيرنا عند قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري إجماعا عن أهل السنة والجماعة ، وامتحانهم لا يقتضي نجاتهم ولا ينافي الإخبار عنهم بأنهم من أهل النار ; لأن الله يطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يشاء من أمر الغيب ، وقد أطلعه على أن هؤلاء من أهل الشقاء ، وأن سجاياهم تأبى قبول الحق والانقياد له ، فهم لا يجيبون الداعي يوم القيامة ، فيعلم من هذا أنهم كانوا أشد تكذيبا للحق في الدنيا لو بلغهم فيها ; لأن في عرصات القيامة ينقاد خلق ممن كان مكذبا في الدنيا ، فإيقاع الإيمان هناك لما يشاهد من الأهوال أولى وأحرى منه في الدنيا . والله أعلم . كما قال تعالى : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ السجدة : 12 ] . وقال تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [ مريم : 38 ] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية