الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            نزول الملائكة

            قال علماء السير: جاءت يوم بدر ريح لم يروا مثلها ثم ذهبت ، ثم جاءت ريح أخرى ، فكانت الأولى جبريل في ألف من الملائكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والثانية ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [والثالثة إسرافيل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم] . وكان سماء الملائكة عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر من نور ، والصوف في نواصي خيلهم ، وكانت خيلا بلقاء .

            وقاتلت الملائكة يوم بدر ولم تقاتل في غير ذلك اليوم ، كانت تحضر ولا تقاتل .

            وقال ابن عباس : حدثني رجل من بني غفار ، قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا الجبل يشرف بنا على بدر ، ونحن مشركان ، ننتظر [الوقعة] على من تكون الدائرة ، فننهب مع من ينهب . فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل ، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم ، فأما ابن عمي فراع قلبه فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت .

            قال ابن حبيب الهاشمي : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : "من القائل [أقدم] حيزوم؟" فقال جبريل : ما كل أهل السماء أعرف . أخبرنا ابن الحصين ، قال: أخبرنا ابن المذهب ، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر ، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أخبرنا يزيد ، قال: قال محمد بن إسحاق ، حدثني أبي ، عن رجل من بني مازن ، عن أبي داود ، وكان شهد بدرا ، قال:

            إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أن قد قتله غيري .

            وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف ، قال لي أبي: يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف .

            وقال عكرمة : كان يومئذ يبدر رأس الرجل لا يدرى من ضربه ، [وتبدر يد الرجل لا يدرى من ضربه] .

            وقال عطية بن قيس : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال بدر ، جاءه جبريل عليه السلام على فرس أنثى حمراء عليه درعه ومعه رمحه قد عصم ثنيتيه الغبار ، فقال: يا محمد إن الله تعالى بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى ، هل رضيت؟ قال: "نعم قد رضيت" [فانصرف] . واستنصر المسلمون الله ، واستغاثوه ، وأخلصوا له ، وتضرعوا إليه ، فأوحى الله إلى ملائكته : ( أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) [ الأنفال : 12 ] ، وأوحى الله إلى رسوله : ( أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) [ الأنفال : 9 ] ، قرئ بكسر الدال وفتحها ، فقيل : المعنى إنهم ردف لكم . وقيل : يردف بعضهم بعضا أرسالا لم يأتوا دفعة واحدة .

            فإن قيل : هاهنا ذكر أنه أمدهم بألف ، وفي ( سورة آل عمران ) قال : ( إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) [ آل عمران : 124- 125 ] فكيف الجمع بينهما ؟

            قيل : قد اختلف في هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف ، والذي بالخمسة على قولين :

            أحدهما : أنه كان يوم أحد ، وكان إمدادا معلقا على شرط ، فلما فات شرطه ، فات الإمداد ، وهذا قول الضحاك ومقاتل ، وإحدى الروايتين عن عكرمة .

            والثاني : أنه كان يوم بدر ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .

            والرواية الأخرى عن عكرمة ، اختاره جماعة من المفسرين . وحجة هؤلاء أن السياق يدل على ذلك ، فإنه سبحانه قال : ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ) [ آل عمران : 123 - 125 ] إلى أن قال : ( وما جعله الله ) أي : هذا الإمداد ( إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به ) قال هؤلاء : فلما استغاثوا ، أمدهم بتمام ثلاثة آلاف ، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف لما صبروا واتقوا ، فكان هذا التدريج ومتابعة الإمداد أحسن موقعا ، وأقوى لنفوسهم ، وأسر لها من أن يأتي به مرة واحدة ، وهو بمنزلة متابعة الوحي ونزوله مرة بعد مرة .

            وقالت الفرقة الأولى : القصة في سياق أحد ، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضا في أثنائها ، فإنه سبحانه قال : ( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) [ آل عمران : 121 ] ، ثم قال : ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ) [ آل عمران : 123 ] ، فذكرهم نعمته عليهم لما نصرهم ببدر وهم أذلة ، ثم عاد إلى قصة أحد ، وأخبر عن قول رسوله لهم : ( ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ) ، ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا ، أمدهم بخمسة آلاف ، فهذا من قول رسوله ، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى ، وهذا بخمسة آلاف ، وإمداد بدر بألف ، وهذا معلق على شرط ، وذلك مطلق ، والقصة في ( سورة آل عمران ) هي قصة أحد مستوفاة مطولة ، وبدر ذكرت فيها اعتراضا ، والقصة في سورة الأنفال قصة بدر مستوفاة مطولة ، فالسياق في ( آل عمران ) غير السياق في الأنفال .

            يوضح هذا أن قوله : ( ويأتوكم من فورهم هذا ) [ آل عمران : 125 ] قد قال مجاهد : إنه يوم أحد ، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه ، فلا يصح قوله : إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر ، وإتيانهم من فورهم هذا يوم أحد . والله أعلم . قال شيخ الإسلام أبو الحسن السبكي رحمه الله تعالى : سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم ببدر ، مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناح ، فأجبت : وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فتكون الملائكة مددا ، على عادة مدد الجيوش؛ رعاية لصورة الأسباب وسننها ، التي أجراها الله تعالى في عباده . والله تعالى فاعل الأشياء .

            وقال في الكشاف في تفسير سورة يس في قوله تعالى : وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين [يس : 28] فإن قلت : فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق ؟ فقال : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها [الأحزاب : 9] وقال : بألف من الملائكة مردفين [الأنفال : 9] بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين [آل عمران : 124] بخمسة آلاف من الملائكة مسومين [آل عمران : 125] قلت : إنما كان يكفي ملك واحد فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل ، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة ، ولكن الله تعالى فضل محمدا صلى الله عليه وسلم بكل شيء على كبار الأنبياء وأولي العزم من الرسل فضلا على حبيبه النجار . وأولاه من أسباب الكرامة ما لم يؤته أحدا ، فمن ذلك أنه أنزل له جنودا من السماء ، وكأنه أشار بقوله : وما أنزلنا وما كنا منزلين إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك ، وما كنا نفعله لغيرك . اختلف المفسرون في قوله تعالى : إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين [آل عمران : 124 ، 125] الآيات ، هل كان هذا الوعد يوم بدر أو يوم أحد ؟ فقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وعامر الشعبي ، والربيع بن أنس ، وغيرهم ، وعليه جرى الإمام البخاري في صحيحه واختاره ابن جرير . وقال الحافظ : إنه قول الأكثر . وإن قوله تعالى : إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين يتعلق بقوله : ولقد نصركم الله ببدر [آل عمران : 123] لأن السياق يدل على ذلك؛ فإنه سبحانه وتعالى قال : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين إلى أن قال : وما جعله الله أي : هذا الإمداد إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به [آل عمران : 126] قالوا : فلما استغاثوا أمدهم بألف ، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف لما صبروا واتقوا ، وكان هذا التدريج ومتابعة الإمداد أحسن موقعا ، وأقوى لنفوسهم ، وأسر لها من أن تأتي دفعة ، وهو بمنزلة متابعة الوحي ونزوله مرة بعد مرة .

            فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [الأنفال : 9] إلى آخر الآية ؟

            فالجواب : أن التنصيص على الألف هنا لا ينافي الثلاثة آلاف فما فوقها؛ لقوله : مردفين ، يعني يردفهم غيرهم ، ويتبعهم ألوف أخر مثلهم ، وهذا السياق شبيه بالسياق في سورة آل عمران ، فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر ، وقالت شرذمة : هذا الوعد بالإمداد بالثلاثة وبالخمسة كان يوم أحد ، وكان إمدادا معلقا على شرط ، وهو التقوى ومصابرة عدوهم فلم يصبروا ، بل فروا ، فلما فات شرطه فات الإمداد فلم يمدوا بملك واحد ، والقصة في سياق أحد ، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضا في آيتها فإنه قال : وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون [آل عمران : 121 ، 122] ثم قال : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون فذكرهم نعمته عليهم لما نصرهم ببدر وهم أذلة ، ثم عاد إلى قصة أحد وأخبر عن قول رسوله : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ثم وعدهم إن صبروا واتقوا أن يمدهم بخمسة آلاف ، فهذا من قول رسوله ، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى هذا : بخمسة آلاف وإمداد بدر بألف ، وهذا معلق على شرط وذاك مطلق ، والقصة في سورة آل عمران هي قصة أحد مستوفاة مطولة ، وبدر ذكرت فيها اعتراضا ، والقصة في سورة الأنفال توضح هذا .

            قال الحافظ : ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور ما رواه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم بسند صحيح عن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي مد المشركين فشق ذلك على المسلمين ، فأنزل الله تعالى : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف الآية ، فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد كرز المشركين ولم يمد المسلمون .

            وقال في موضع آخر : هذا- أي القول الأول- هو المعتمد .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية