الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين

            سبب قتل المتوكل

            وفي هذه السنة قتل المتوكل ، وكان سبب قتله أنه أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع وصيف بأصبهان والجبل ، وإقطاعها الفتح بن خاقان ، فكتبت ، وصارت إلى الخاتم ، فبلغ ذلك وصيفا ، وكان المتوكل أراد أن يصلي بالناس أول جمعة في رمضان ، وشاع في الناس ، واجتمعوا لذلك ، وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا ركب .

            فلما كان يوم الجمعة ، وأراد الركوب للصلاة ، قال له عبيد الله بن يحيى ، والفتح بن خاقان : إن الناس قد كثروا من أهل بيتك ومن غيرهم ، فبعض متظلم ، وبعض طالب حاجة ، وأمير المؤمنين يشكو ضيق الصدر ، وعلة به ، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة ، ونكون معه ، فليفعل .

            فأمر المنتصر بالصلاة ، فلما نهض للركوب قالا له : يا أمير المؤمنين ، إن رأيت أن تأمر المعتز بالصلاة ، فقد اجتمع الناس لتشرفه بذلك ، وقد بلغ الله به ، وكان قد ولد للمعتز قبل ذلك ولد ، فأمر المعتز ، فركب فصلى بالناس ، وأقام المنتصر في داره بالجعفرية ، فزاد ذلك في إغرائه .

            فلما فرغ المعتز من خطبته قام إليه عبيد الله والفتح بن خاقان ، فقبلا يديه ورجليه ، فلما فرغ من الصلاة انصرف ومعه الناس في موكب الخلافة ، حتى دخل على أبيه ، فأثنوا عليه عنده ، فسره ذلك .

            فلما كان عيد الفطر قال : مروا المنتصر يصلي بالناس ! فقال له عبيد الله : قد كان الناس يتطلعون إلى رؤية أمير المؤمنين ، واحتشدوا لذلك ، فلم يركب ، ولا يأمن إن هو لم يركب اليوم ، أن يرجف الناس بعلته ، فإذا رأى أمير المؤمنين أن يسر الأولياء ، ويكبت الأعداء بركوبه فليفعل .

            فركب وقد صف له الناس نحو أربعة أميال ، وترجلوا بين يديه ، فصلى ، ورجع ، فأخذ حفنة من التراب ، فوضعها على رأسه ، وقال : إني رأيت كثرة هذا الجمع ، ورأيتهم تحت يدي ، فأحببت أن أتواضع لله .

            فلما كان اليوم الثالث افتصد ، واشتهى لحم جزور ، فأكله ، وكان قد حضر عنده ابن الحفصي وغيره ، فأكلوا بين يديه . قال : ولم يكن يوم أسر من ذلك اليوم ، ودعا الندماء والمغنين ، فحضروا .

            وأهدت له أم المعتز مطرف خز أخضر ، لم ير الناس مثله ، فنظر إليه ، فأطال ، وأكثر تعجبه منه ، وأمر فقطع نصفين ورده عليها ، وقال لرسولها : والله إن نفسي لتحدثني أني لا ألبسه ، وما أحب أن يلبسه أحد بعدي; ولهذا أمرت بشقه .

            قال : فقلنا : نعيذك بالله أن تقول مثل هذا ، قال : وأخذ في الشراب واللهو ، ولج بأن يقول : أنا والله مفارقكم عن قليل ! ولم يزل في لهوه وسروره إلى الليل .

            وكان قد عزم هو والفتح أن يفتكا بكرة غد بالمنتصر ووصيف وبغا وغيرهم من قواد الأتراك ، وقد كان المنتصر واعد الأتراك ووصيفا وغيره على قتل المتوكل .

            وكثر عبث المتوكل ، قبل ذلك بيوم ، بابنه المنتصر ، مرة يشتمه ، ومرة يسقيه فوق طاقته ، ومرة يأمر بصفعه ، ومرة يتهدده بالقتل ، ثم قال للفتح : برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إن لم تلطمه ، يعني المنتصر ، فقام إليه فلطمه مرتين ، ثم أمر يده على قفاه ، ثم قال لمن حضره : اشهدوا علي جميعا أني قد خلعت المستعجل ، يعني المنتصر ، ثم التفت إليه ، فقال : سميتك المنتصر ، فسماك الناس ، لحمقك ، المنتظر ، ثم صرت الآن المستعجل .

            فقال المنتصر : لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل علي مما تفعله بي ، فقال : اسقوه ، ثم أمر بالعشاء فأحضر ، وذلك في جوف الليل ، فخرج المنتصر من عنده ، وأمر بنانا غلام أحمد بن يحيى أن يلحقه ، وأخذ بيد زرافة ( الحاجب ) ، وقال له : امض معي ! فقال : إن أمير المؤمنين لم ينم ، فقال : إنه قد أخذ منه النبيذ ، والساعة يخرج بغا والندماء ، وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك إلي ، فإن أوتامش سألني أن أزوج ولده من ابنتك ، وابنك من ابنته ، فقال : نحن عبيدك فمر بأمرك ! فسار معه إلى حجرة هناك ، وأكلا طعاما ، فسمعا الضجة والصراخ ، فقاما ، وإذا بغا قد لقي المنتصر ، فقال المنتصر : ما هذا ؟ فقال : خير يا أمير المؤمنين ، قال : ما تقول ويلك ؟ قال : أعظم الله أجرك ( في سيدنا ) أمير المؤمنين ، كان عبد الله دعاه فأجابه .

            فجلس المنتصر ، وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكل ، فأغلق ، وأغلقت الأبواب كلها ، وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل .

            كيفية قتل المتوكل

            وأما كيفية قتل المتوكل ، فإنه لما خرج المنتصر دعا المتوكل بالمائدة ، وكان بغا الصغير المعروف بالشرابي قائما عند الستر ، وذلك اليوم كان نوبة بغا الكبير ، وكان خليفته في الدار ابنه موسى ، وموسى هو ابن خالة المتوكل ، وكان أبوه يومئذ بسميساط ، فدخل بغا الصغير إلى المجلس ، فأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم ، فقال له الفتح : ليس هذا وقت انصرافهم ، وأمير المؤمنين لم يرتفع ، فقال بغا : إن أمير المؤمنين أمرني أنه إذا جاوز السبعة لا أترك أحدا ، وقد شرب أربعة عشر رطلا ، وحرم أمير المؤمنين خلف الستارة ، وأخرجهم ، فلم يبق إلا الفتح وعثعث ، وأربعة من خدم الخاصة ، وأبو أحمد بن المتوكل ، وهو أخو المؤيد لأمه .

            وكان بغا الشرابي أغلق الأبواب كلها ، إلا باب الشط ، ومنه دخل القوم الذين قتلوه ، فبصر بهم أبو أحمد ، فقال : ما هذا يا سفل ! وإذا سيوف مسللة ، فلما سمع المتوكل صوت أبي أحمد رفع رأسه ، فرآهم ، فقال : ما هذا يا بغا ؟ فقال : هؤلاء رجال النوبة ، فرجعوا إلى ورائهم عند كلامه ، ولم يكن واجن وأصحابه وولد وصيف حضروا معهم ، فقال لهم بغا : يا سفل ! أنتم مقتولون لا محالة ، فموتوا كراما ! فرجعوا ، فابتدره بغلون ، فضربه على كتفه وأذنه فقده ، فقال : مهلا ! قطع الله يدك ، وأراد الوثوب به ، واستقبله بيده ، فضربها ، فأبانها ، وشاركه باغر ، فقال الفتح : ويلكم ! أمير المؤمنين . . . ورمى بنفسه على المتوكل ، فبعجوه بسيوفهم ، فصاح : الموت ! وتنحى ، فقتلوه .

            وكانوا قالوا لوصيف ليحضر معهم ، وقالوا : إنا نخاف ، فقال : لا بأس عليكم ، فقالوا له : أرسل معنا بعض ولدك ، فأرسل معهم خمسة من ولده : صالحا ، وأحمد ، وعبد الله ، ونصرا ، وعبيد الله .

            وقيل : إن القوم لما دخلوا نظر إليهم عثعث ، فقال للمتوكل : قد فرغنا من الأسد ، والحيات ، والعقارب ، وصرنا إلى السيوف ، وذلك أنه ربما أسلى الحية ، والعقرب ، والأسد ، فلما ذكر عثعث السيوف قال : يا ويلك ! أي سيوف ؟ فما استتم كلامه حتى دخلوا عليه وقتلوه ، وقتلوا الفتح ، وخرجوا إلى المنتصر ، فسلموا عليه بالخلافة ، وقالوا : مات أمير المؤمنين ، وقاموا على رأس زرافة بالسيوف ، وقالوا : بايع ، فبايع .

            وأرسل المنتصر إلى وصيف : إن الفتح قد قتل أبي فقتلته ، فاحضر في وجوه أصحابك ! فحضر هو وأصحابه ، فبايعوا . وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته ينفذ الأمور ولا يعلم ، وبين يديه جعفر بن حامد ، إذ طلع عليه بعض الخدم ، فقال : ما يحبسك والدار سيف واحد ؟ فأمر جعفرا بالنظر ، فخرج ، وعاد وأخبره أن المتوكل والفتح قتلا ، فخرج فيمن عنده من خدمه وخاصته ، فأخبر أن الأبواب مغلقة ، وأخذ نحو الشط ، فإذا أبوابه مغلقة ، فأمر بكسر ثلاثة أبواب ، وخرج إلى الشط ، وركب في زورق ، فأتى منزل المعتز ، فسأل عنه ، فلم يصادفه ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، قتل نفسه وقتلني .

            واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة يوم الأربعاء ، من الأبناء ، والعجم ، والأمن والزواقيل ، وغيرهم ، فكانوا زهاء عشرة آلاف ، وقيل : كانوا ثلاثة عشر ألفا ، وقيل : ما بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف ، فقالوا : ما اصطنعتنا إلا لهذا اليوم ، فمرنا بأمرك ، وائذن لنا أن نمل على القوم ، ونقتل المنتصر ومن معه ! فأبى ذلك ، وقال : المعتز في أيديهم .

            وذكر عن علي بن يحيى المنجم أنه قال : كنت أقرأ على المتوكل ، قبل قتله بأيام ، كتابا من كتب الملاحم ، فوقفت على موضع فيه أن الخليفة العاشر يقتل في مجلسه ، فتوقفت عن قراءته ، فقال : ما لك ؟ فقلت : خيرا ! قال : لا بد من أن تقرأه ، فقرأته ، وحدث عن ذكر الخلفاء ، فقال : ليت شعري من هذا الشقي المقتول ؟ فقال أبو الوارث ، قاضي نصيبين : رأيت في النوم آتيا وهو يقول :


            يا نائم العين في جثمان يقظان ما بال عينك لا تبكي بتهتان     أما رأيت صروف الدهر ما فعلت
            بالهاشمي وبالفتح بن خاقان ؟

            فأتى البريد بعد أيام بقتلهما .

            وكان قتله ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال ، وقيل : ليلة الخميس .

            اسمه ونسبه

            جعفر ابن المعتصم بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، أبو الفضل المتوكل . وأمه أم ولد يقال لها : شجاع . وكانت من سروات النساء سخاء وحزما . كان مولده بفم الصلح سنة سبع ومائتين ، وبويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة لسنة ثنتين وثلاثين ومائتين كما تقدم . مناقبه ومآثره

            وعن جرير بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حرم الرفق حرم الخير ثم أنشأ المتوكل يقول :


            الرفق يمن والأناة سعادة     فاستأن في رفق تلاق نجاحا
            لا خير في حزم بغير روية     والشك وهن إن أردت سراحا

            وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه : وحدث عن أبيه المعتصم ، ويحيى بن أكثم القاضي . وروى عنه علي بن الجهم الشاعر ، وهشام بن عمار الدمشقي ، وقدم دمشق في خلافته ، وابتنى بها قصرا بأرض داريا ، وقال يوما لبعضهم : إن الخلفاء كانت تتصعب على الرعية لتطيعها ، وإني ألين لهم ليحبوني ويطيعوني . وقال أحمد بن مروان المالكي : ثنا أحمد بن علي البصري قال : وجه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء ، فجمعهم في داره ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم إليه غير أحمد بن المعذل ، فقال المتوكل لعبيد الله : إن هذا لا يرى بيعتنا ؟ فقال له : بلى يا أمير المؤمنين ، ولكن في بصره سوء . فقال أحمد بن المعذل : يا أمير المؤنين ، ما في بصري سوء ، ولكن نزهتك من عذاب الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه .

            وروى ابن عساكر عن علي بن الجهم قال : وقفت قبيحة حظية المتوكل بين يديه وقد كتبت على خدها بالغالية : جعفر . فتأمل ذلك ، ثم أنشأ يقول :


            وكاتبة في الخد بالمسك جعفرا     بنفسي محط المسك من حيث أثرا
            لئن أودعت سطرا من المسك خدها     لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا
            فيا من مناها في السريرة جعفر     سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا
            ويا من لمملوك لملك يمينه     مطيع له فيما أسر وأظهرا

            قال : ثم أمر المتوكل عريبا فغنت به .

            حب الرعية للمتوكل

            وكان المتوكل محببا إلى رعيته ، قائما بالسنة فيها ، وقد شبهه بعضهم بالصديق في رده على أهل الردة ، حتى رجعوا إلى الدين ، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية . وهو أظهر السنة بعد البدعة ، وأخمد البدعة بعد انتشارها واشتهارها ، فرحمه الله .

            وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور ، فقال : آلمتوكل ؟ ! فقال : المتوكل . قال : فما فعل بك ربك ؟ قال : غفر لي . قلت : بماذا ؟ قال : بقليل من السنة أحييتها .

            وروى الخطيب عن صالح بن أحمد أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل كأن رجلا يصعد به إلى السماء ، وقائلا يقول :


            ملك يقاد إلى مليك عادل     متفضل في العفو ليس بجائر

            وروي عن عمرو بن شيبان الحلبي قال : رأيت ليلة قتل المتوكل قائلا يقول :


            يا نائم العين في أقطار جثمان     أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
            أما ترى الفتية الأرجاس ما فعلوا     بالهاشمي وبالفتح بن خاقان
            وافى إلى الله مظلوما فضج له     أهل السماوات من مثنى ووحدان
            وسوف تأتيكم أخرى مسومة     توقعوها لها شأن من الشان
            فابكوا على جعفر وارثوا خليفتكم     فقد بكاه جميع الإنس والجان

            قال : فأصبحت فأخبرت الناس ، فجاء نعيه أنه قتل في تلك الليلة .

            وذكر أن أبا السمط مروان بن أبي الجنوب قال : أنشدت المتوكل شعرا ذكرت فيه الرافضة ، فعقد لي على البحرين واليمامة ، وخلع علي أربع خلع ، وخلع علي المنتصر ، وأمر لي المتوكل بثلاثة آلاف دينار ، فنثرت علي ، وأمر ابنه المنتصر وسعدا الإيتاخي أن يلقطاها لي ، ففعلا ، والشعر الذي قلته :


            ملك الخليفة جعفر     للدين والدنيا سلامه
            لكم تراث محمد     وبعدلكم تنفى الظلامه
            يرجو التراث بنو البنات     وما لهم فيها قلامه
            والصهر ليس بوارث     والبنت لا ترث الإمامه
            ما للذين تنحلوا     ميراثكم إلا الندامه
            أخذ الوراثة أهلها     فعلام لومكم علامه
            لو كان حقكم لما     قامت على الناس القيامه
            ليس التراث لغيركم     لا والإله ، ولا كرامه
            أصبحت بين محبكم     والمبغضين لكم علامه

            ثم نثر علي ، بعد ذلك ، لشعر قلته في هذا المعنى عشرة آلاف درهم .

            وقال يحيى بن أكثم : حضرت المتوكل ، فجرى بيني وبينه ذكر المأمون ، فقلت بتفضيله ، وتقريظه ، ووصف محاسنه وعلمه ومعرفته قولا كثيرا ، لم يقع لموافقة من حضر ، فقال المتوكل : كيف كان يقول في القرآن ؟ فقلت كان يقول : ما مع القرآن حاجة إلى علم فرض ، ولا مع السنة وحشة إلى فعل أحد ، ولا مع البيان والإفهام حجة لتعلم ، ولا بعد الجحود للبرهان والحق إلا السيف ، لظهور الحجة .

            فقال المتوكل : لم أرد منك ما ذهبت إليه ، فقال يحيى : القول بالمحاسن في المغيب فريضة على ذي نعمة .

            قال : فما كان يقول خلال حديثه ، فإن أمير المؤمنين المعتصم بالله ، رحمه الله ، كان يقوله وقد أنسيته ، قال كان يقول : اللهم إني أحمدك على النعم التي لا يحصيها غيرك ، وأستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها إلا عفوك .

            قال : فما كان يقول إذا استحسن شيئا ، أو بشر بشيء ؟ فقد نسيناه ، قال يحيى : كان يقول إن ذكر آلاء الله وكثرتها ، وتعداد نعمه ، والحديث بها فرض من الله على أهلها ، وطاعة لأمره فيها ، وشكر له عليها ، فالحمد لله العظيم الآلاء السابغ النعماء بما هو أهله ومستوجبه من محامده القاضية حقه ، البالغة شكره ، المانعة غيره ، الموجبة مزيده ، على ما لا يحصيه تعدادنا ، ولا يحيط به ذكرنا من ترادف منته ، وتتابع فضله ، ودوام طوله ، حمد من يعلم أن ذلك منه ، والشكر له عليه ، فقال المتوكل : صدقت ، [ هذا ] هو الكلام بعينه .

            وقدم في هذه السنة محمد بن عبد الله بن طاهر من مكة في صفر ، فشكا ما ناله من الغم بما وقع من الخلاف في يوم النحر ، فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة ، وأمر أن يقام على المشعر الحرام ، وسائر المشاعر ، الشمع مكان الزيت والنفط .

            وفاة أم المتوكل

            وفيها ماتت أم المتوكل في شهر ربيع الآخر ، وصلى عليها المنتصر ، ودفنت عند المسجد الجامع ، وكان موتها قبل المتوكل بستة أشهر .

            فائدة

            ثمانية سلم عليهم بالخلافة وكل منهم أبوه خليفة

            قال بعضهم : (سلم على المتوكل بالخلافة ثمانية كل واحد منهم أبوه خليفة : منصور بن المهدي ، والعباس بن الهادي ، وأبو أحمد بن الرشيد ، وعبد الله بن الأمين ، وموسى بن المأمون ، وأحمد بن المعتصم ، ومحمد بن الواثق ، وابنه المنتصر ) .

            وقال المسعودي : (لا يعلم أحد متقدم في جد ولا هزل . . . إلا وقد حظي في دولته ، ووصل إليه نصيب وافر من المال ) .

            وكان منهمكا في اللذات والشراب ، وكان له أربعة آلاف سرية وطئ الجميع .

            إكرام المتوكل لذي النون المصري

            وفي كتاب «المحن» للسلمي : (أن ذا النون أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية ، فأنكر عليه عبد الله بن عبد الحكم - وكان رئيس مصر ومن جلة أصحاب مالك - وأنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف ، ورماه بالزندقة ، فدعاه أمير مصر وسأله عن اعتقاده ، فتكلم فرضي أمره ، وكتب به إلى المتوكل ، فأمر بإحضاره ، فحمل على البريد ، فلما سمع كلامه . . . ولع به وأحبه وأكرمه ، حتى كان يقول : إذا ذكر الصالحون فحيهلا بذي النون ) . وصيفة وفية للمتوكل

            وكان من حظاياه : وصيفة تسمى محبوبة ، شاعرة عالمة بصنوف العلم عوادة ، فلما قتل . . . ضمت إلى بغا الكبير ، فأمر بها يوما للمنادمة ، فجلست منكسرة ، فقال : (غني ، فاعتلت ، فأقسم عليها وأمر بالعود ، فوضع في حجرها فغنت ارتجالا :


            أي عيش يلذ لي     لا أرى فيه جعفرا ؟
            ملك قد رأيته     في نجيع معفرا
            كل من كان ذا هيا     م وسقم فقد برا
            غير محبوبة التي     لو ترى الموت يشترى
            لاشترته بما حوتـ     ـه يداها لتقبرا
            إن موت الحزين أطـ     يب ، من أن يعمرا

            فغضب بغا ، وأمر بها فسجنت ، فكان آخر العهد بها) . المتوكل ووزيره عاشا معا وماتا معا

            ومن الغريب : أن المتوكل قال للبحتري : (قل في شعرا وفي الفتح بن خاقان; فإني أحب أن يحيا معي ، ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني ، فقل في هذا المعنى ، فقال :


            سيدي أنت كيف أخلفت وعدي     وتثاقلت عن وفاء بعهدي ؟
            لا أرتني الأيام فقدك يا فتـ     ـح ولا عرفتك ما عشت فقدي
            أعظم الرزء أن تقدم قبلي     ومن الرزء أن تؤخر بعدي
            حذرا أن تكون إلفا لغيري     إذ تفردت بالهوى فيك وحدي

            فقتلا معا; كما تقدم . تعظيم المتوكل للإمام الشافعي وتمذهبه بمذهبه

            وأخرج عن هشام بن عمار قال : (سمعت المتوكل يقول : واحسرتي على محمد بن إدريس الشافعي; كنت أحب أن أكون في أيامه ، فأراه وأشاهده وأتعلم منه; فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول : «يا أيها الناس; إن محمد بن إدريس المطلبي قد صار إلى - رحمة الله - تعالى ، وخلف فيكم علما حسنا ، فاتبعوه . . . تهدوا» ، ثم قال : اللهم; ارحم محمد بن إدريس رحمة واسعة ، وسهل علي حفظ مذهبه ، وانفعني بذلك ) .

            قلت : استفدنا من هذا : أن المتوكل كان متمذهبا بمذهب الشافعي ، وهو أول من تمذهب له من الخلفاء . جزاء الهم بالخير

            وأخرج عن عبد الأعلى بن حماد النرسي قال : (دخلت على المتوكل فقال لي : يا أبا يحيى; ما أبطأ بك عنا ؟ منذ ثلاث لم نرك ، كنا هممنا لك بشيء فصرفناه إلى غيرك .

            فقلت : يا أمير المؤمنين; جزاك الله عن هذا الهم خيرا ، ألا أنشدك بهذا المعنى بيتين ؟ قال : بلى ، فأنشدته :


            لأشكرنك معروفا هممت به     إن اهتمامك بالمعروف معروف
            ولا ألومك إذ لم يمضه قدر     فالرزق بالقدر المحتوم مصروف

            فأمر لي بألف دينار ) . الجارية الشاعرة والمتوكل

            وأخرج عن أبي العيناء قال : أهديت إلى المتوكل جارية شاعرة ، اسمها : فضل ، فقال لها : أشاعرة أنت ؟ قالت : هكذا زعم من باعني واشتراني ، فقال : أنشدينا شيئا من شعرك ، فأنشدته :


            استقبل الملك إمام الهدى     عام ثلاث وثلاثينا
            خلافة أفضت إلى جعفر     وهو ابن سبع بعد عشرينا
            إنا لنرجو يا إمام الهدى     أن تملك الملك ثمانينا
            لا قدس الله امرأ لم يقل     عند دعائي لك : آمينا

            منامان توافقا

            وأخرج عن علي بن الجهم قال : (أهدي إلى المتوكل جارية يقال لها : محبوبة ، قد نشأت بالطائف ، وتعلمت الأدب ، وروت الأشعار ، فأغرى المتوكل بها ، ثم إنه غضب عليها ، ومنع جواري القصر من كلامها ، فدخلت عليه يوما ، فقال لي : قد رأيت محبوبة في منامي كأني قد صالحتها وصالحتني ، فقلت : خيرا يا أمير المؤمنين .

            فقال : قم بنا لننظر ما هي عليه ، فقمنا حتى أتينا حجرتها ، فإذا هي تضرب على العود وتقول :


            أدور في القصر لا أرى أحدا     أشكو إليه ولا يكلمني
            حتى كأني أتيت معصية     ليست له توبة تخلصني
            فهل شفيع لنا إلى ملك     قد زارني في الكرى فصالحني ؟
            حتى إذا ما الصباح لاح لنا     عاد إلى هجره فصارمني

            فصاح المتوكل ، فخرجت إليه ، فأكبت على رجليه تقبلهما ، فقالت : يا سيدي؛ رأيتك في ليلتي هذه كأنك قد صالحتني ، قال : وأنا والله قد رأيتك ، فردها إلى مرتبتها ، فلما قتل المتوكل . . . صارت إلى بغا . . . وذكر الأبيات السابقة ) . مدح البحتري للمتوكل في رفعه للمحنة

            وأخرج عن علي البحتري يمدح المتوكل فيما رفع من المحنة ، ويهجو ابن أبي دؤاد بقوله :


            أمير المؤمنين لقد شكرنا     إلى أيامك الغر الحسان
            رددت الدين فذا بعدما قد     أراه فرقتين تخاصمان
            قصمت الظالمين بكل أرض     فأضحى الظلم مجهول المكان
            وفي سنة رمت متجبريهم     على قدر بداهية عوان
            فما أبقت من ابن أبي دؤاد     سوى جسد يخاطب بالمعاني
            تحير فيه سابور بن سهل     فطاوله ومناه الأماني
            إذا أصحابه اصطحبوا بليل     أطالوا الخوض في خلق القران

            حديث مسلسل بالجمة والآباء والخلفاء

            وقال ابن عساكر : قال علي بن الجهم قال : كنت عند المتوكل ، فتذاكروا عنده الجمال ، فقال : إن حسن الشعر لمن الجمال ، وعن ابن عباس قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جمة إلى شحمة أذنيه ، كأنها نظام اللؤلؤ ، وكان من أجمل الناس ، وكان أسمر رقيق اللون ، لا بالطويل ولا بالقصير ، وكان لعبد المطلب جمة إلى شحمة أذنيه ، وكان لهاشم جمة إلى شحمة أذنيه ) .

            قال علي بن الجهم : وكان للمتوكل جمة إلى شحمة أذنيه ، وقال لنا المتوكل : كان للمعتصم جمة ، وكذلك للمأمون ، والرشيد ، والمهدي ، والمنصور ، ولأبيه محمد ، ولجده علي ، ولأبيه عبد الله بن عباس .

            قلت : هذا الحديث مسلسل من ثلاثة أوجه : بذكر الجمة ، وبالآباء ، وبالخلفاء; ففي إسناده ست خلفاء .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية