الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد خلقناكم ثم صورناكم تذكير لنعمة أخرى وتأخيره عن تذكير ما وقع بعده من نعمة التمكن في الأرض إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمة مستقلة والمراد خلق آدم عليه السلام وتصويره كما يقتضيه ظاهر العطف الآتي لكن لما كان مبدأ للمخاطبين جعل خلقه خلقا لهم ونزل منزلته فالتجوز على هذا في ضمير الجمع بجعل آدم عليه السلام كجميع الخلق لتفرعهم عنه أو في الإسناد إذ أسند ما لآدم الذي هو الأصل والسبب إلى ما تفرع عنه وتسبب .

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف وذهب الإمام إلى أنه كناية عن خلق آدم عليه السلام والمعنى خلقنا أباكم آدم عليه السلام طينا غير مصور ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار ذلك إليكم وجوز أن يكون التجوز في الفعل والمراد ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه ويعود هذا إلى ابتداء خلق الجنس وابتداء خلق كل جنس بإيجاد أول أفراده فهو نظير قوله تعالى : خلق الإنسان من طين وعلى هذين الوجهين يظهر وجه العطف بثم في قوله تعالى : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وزعم الأخفش أن ( ثم ) هنا بمعنى الواو وتعقبه الزجاج بأنه خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه ولا من يوثق بعلمه لأن ثم للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غيره وإنما المعنى إنا ابتدأنا خلق آدم عليه السلام من تراب ثم صورناه أي هذا أصل خلقكم ثم بعد الفراغ من أصلكم قلنا .. إلخ . وقيل : إن ( ثم ) لترتيب الأخبار لا للترتيب الزماني حتى يحتاج إلى توجيه والمعنى خلقناكم يا بني آدم مضغا غير مصورة ثم صورناكم بشق السمع والبصر وسائر الأعضاء كما روي عن يمان أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء كما روي عن عكرمة ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة .. إلخ . وإلى هذا ذهب جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى والقاضي أبو سعيد السيرافي وغيرهما وقال الطيبي : يمكن أن تحمل ( ثم ) على التراخي في الرتبة لأن مقام الامتنان يقتضي أن يقال : إن كون أبيهم مسجودا للملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم وفيه تلويح إلى شرف العلم وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة ومن ثم عقب في البقرة الأمر بالسجود مسألة التحدي بالعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن عباس ومجاهد والربيع وقتادة والسدي أن المعنى خلقنا آدم عليه السلام ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا .. إلخ . وقد تقدم الكلام في المراد بالملائكة المأمورين بالسجود وكذا الكلام في المراد بالسجود .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 87 ] وذكر بعض المحققين أن الظاهر أن يقال : ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم إلا أنه عدل عن ذلك لأن الأمر بالسجود كان قبل خلق آدم عليه السلام على ما نطق به قوله تعالى : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين والواقع بعد تصويره إنما هو قوله سبحانه : اسجدوا لآدم وذلك لتعيين وقت السجدة المأمور بها قبل والحاصل أنه سبحانه أمرهم أولا أمرا معلقا ثم أمرهم ثانيا أمرا منجزا مطابقا للأمر السابق فلذا جعله حكاية له وفي ذلك ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام فسجدوا أي الملائكة عليهم السلام بعد القول من غير تلعثم كلهم أجمعون إلا إبليس استثناء متصل سواء قلنا إن إبليس من الملائكة حقيقة أم لا أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلأنه لما كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بغالب صفاتهم غلبوا عليه في فسجدوا ثم استثني استثناء واحد منهم وقيل : منقطع بناء على أنه من الجن وأنهم ليسوا من جنس الملائكة ولا تغليب والأول هو المختار .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر قوله تعالى : لم يكن من الساجدين (11) أي ممن سجد لآدم عليه السلام مع أنه علم من الاستثناء عدم السجود لأن المعلوم من الاستثناء عدم العموم لا عموم العدم والمراد الثاني أي أنه لم يصدر منه السجود مطلقا لا معهم ولا منفردا وهذا إنما يفيده التنصيص كذا قيل ونظر فيه بأن التنصيص المذكور يفيد عموم الأحوال والأوقات فلا يتم ما ذكر وتحقيق هذا المقام على ما ذكره المولى سري الدين أن يقال : إن القوم اختلفوا في أن الاستثناء من النفي إثبات أم لا فقال الشافعي : نعم فيكون نقيض الحكم ثابتا للمستثنى بطريق العبارة ويوافقه ظاهر عبارة الهداية .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب طائفة من الحنفية إلى أنه بطريق الإشارة وذهب آخرون إلى أن المستثنى في حكم المسكوت عنه وإنما يستفاد الحكم بطريق مفهوم المخالفة واختار صاحب البحر أنه منطوق إشارة تارة وعبارة أخرى .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا تقرر هذا فيمكن أن يقال في الجواب : إن المقام لما كان مقام التسجيل على إبليس بعدم السجود والتشهير والتوبيخ بتلك القبيحة الهائلة كان خليقا بالتصريح جديرا بالاحتياط لضعف التعويل على القرينة لائقا بكمال الإيضاح والتقرير فعدل عن طريق الحذف وإن كان الكلام دالا على المحذوف إلى منهج الذكر والتصريح به وهذا على رأي الشافعي ومن وافقه ظاهر وإليه أشار السراج الهندي في مباحث الاستثناء من شرح المغني وأما على باقي المذاهب فالأمر أظهر لأن الحكم على المستثنى بنقيض حكم المستثنى منه إما بطريق الإشارة أو مفهوم المخالفة وعلى كل فالمقام يأبى الاكتفاء بمثل ذلك ويقتضي التصريح بذكر الحكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وادعى مولانا ابن الكمال أن هذه الجملة إنما جيء بها لانقطاع الاستثناء وأنه لو كان الاستثناء متصلا يكون الإتيان بها ضائعا لأن عدم كون إبليس من الساجدين يفهم من الاستثناء على تقدير اتصاله ولا يخفى ما فيه على من أحاط علما بما ذكرنا واعترضه البعض أيضا بأنه على تقدير الانقطاع يكون ذلك ضائعا أيضا بناء على ما ظنه فإن ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى غير مختص بالمتصل ولذا لا نراهم يذكرون مع المستثنى المنقطع أيضا نقيض حكم المستثنى منه إلا قليلا ولو تم ما ذكره لوجب ذكر الخبر مع كل منقطع فليفهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية