الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله أي باعوا، فالأنفس بمنزلة المثمن، والكفر بمنزلة الثمن، لأن أنفسهم الخبيثة لا تشترى بل تباع، وهو على الاستعارة، أي إنهم اختاروا الكفر على الإيمان، وبذلوا أنفسهم فيه، وقيل : هو بمعناه المشهور، لأن المكلف إذا خاف على نفسه من العقاب أتى بأعمال يظن أنها تخلصه، فكأنه اشترى نفسه بها، فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم، وخلصوها، فذمهم الله تعالى عليه، واعترض بأنه كيف يدعى أنهم ظنوا ذلك مع قوله تعالى : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فإذا علموا مخالفة الحق، كيف يظنون نجاتهم بما فعلوا، وإرادة العقاب الدنيوي كترك الرياسة غير صحيح، لأنه لا يشترى به الأنفس، ويمكن الجواب بأن المراد أنهم ظنوا على ما هو ظاهر حالهم من التصلب في اليهودية، والخوف فيما يأتون ويذرون، وادعاء الحقية فيه، فلا ينافي عدم ظنهم في الواقع على ما تدل عليه الآية، والمراد بما أنزل الله الكتاب المصدق، وفي تبديل المجيء بالإنزال المشعر بأنه من العالم العلوي مع الإسناد إليه تعالى إيذان بعلو شأنه، وعظمه الموجب للإيمان به، وقيل : يحتمل أن يراد به التوراة والإنجيل، وأن يراد الجميع، والكفر ببعضها كفر بكلها، واختلف في (ما) الواقعة بعد (بئس)، ألها محل من الإعراب أم لا؟ فذهب الفراء إلى أنها لا محل لها، وأنها مع بئس شيء واحد كحبذا، وذهب [ ص: 322 ] الجمهور إلى أن لها محلا، واختلف أهو نصب أم رفع، فذهب الأخفش إلى الأول على أنها تمييز، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة، وفاعل بئس مضمر مفسر بها، والتقدير: بئس هو شيئا اشتروا به، وأن يكفروا هو المخصوص بالذم، والتعبير بصيغة المضارع لإفادة الاستمرار على الكفر، فإنه الموجب للعذاب المهين، ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص محذوفا، واشتروا صفة له، والتقدير: بئس شيء اشتروا به، وأن يكفروا بدل من المحذوف، أو خبر مبتدإ محذوف، وذهب الكسائي إلى النصب على التمييز أيضا، إلا أنه قدر بعدها ما أخرى موصولة، هي المخصوص بالذم، واشتروا صلتها، والتقدير: بئس شيئا الذي اشتروا، وذهب سيبويه إلى الثاني على أنها فاعل بئس، وهي معرفة تامة، والمخصوص محذوف، أي شيء اشتروا، وعزى هذا إلى الكسائي أيضا، وقيل : موصولة، وهو أحد قولي الفارسي، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه ، وهو وهم، ونقل المهدوي عن الكسائي أن (ما) مصدرية، والمتحصل فاعل بئس، واعترض بأن بئس لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير، ولك على هذا التقدير أن لا تجعل ذلك فاعلا، بل تجعله المخصوص، والفاعل مضمر، والتمييز محذوف لفهم المعنى، والتقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم، فلا يلزم الاعتراض، نعم يرد عود ضمير (به) على (ما)، والمصدرية لا يعود عليها الضمير، لأنها حرف عند غير الأخفش، فافهم، بغيا أن ينزل الله البغي في الأصل الظلم والفساد من قولهم: بغى الجرح فسد، قاله الأصمعي ، وقيل : أصله الطلب، وتختلف أنواعه، ففي طلب زوال النعمة حسد، والتجاوز على الغير ظلم، والزنا فجور، والمراد به هنا بمعونة المقام طلب ما ليس لهم، فيؤول إلى الحسد، وإلى ذلك ذهب قتادة ، وأبو العالية والسدي ، وقيل : الظلم، وانتصابه على أنه مفعول له، (ليكفرون) فيفيد أن كفرهم كان لمجرد العناد الذي هو نتيجة الحسد لا للجهل، وهو أبلغ في الذم، لأن الجاهل قد يعذر، وذهب الزمخشري إلى أنه علة (اشتروا) ورد بأنه يستلزم الفصل بالأجنبي، وهو المخصوص بالذم، وهو وإن لم يكن أجنبيا بالنسبة إلى فعل الذم وفاعله، لكن لا خفاء في أنه أجنبي بالنسبة إلى الفعل الذي وصف به تمييز الفاعل، والقول بأن المعنى على ذم ما باعوا به أنفسهم حسدا، وهو الكفر لا على ذم ما باعوا به أنفسهم، وهو الكفر حسدا تحكم، نعم قد يقال : إنما يلزم الفصل بأجنبي، إذا كان المخصوص مبتدأ خبره بئسما، أما لو كان خبر مبتدإ محذوف، وهو المختار، فلا، لأن الجملة حينئذ جواب للسؤال عن فاعل بئس، فيكون الفصل بين المعلول وعلته بما هو بيان للمعلول، ولا امتناع فيه، وجعله بعضهم علة (لاشتروا) محذوفا فرارا من الفصل، ومنهم من أعربه حالا ومفعولا مطلقا لمقدر، أي بغوا بغيا، (وأن ينزل)، إما مفعول من أجله للبغي أي حسدا لأجل تنزيل الله، وإما على إسقاط الخافض المتعلق بالبغي، أي حسدا على أن ينزل، والقول بأنه في موضع خفض على أنه بدل اشتمال من ما في قوله : بما أنزل الله بعيد جدا، وربما يقرب منه ما قيل : إنه في موضع المفعول الثاني، والبغي بمعنى طلب الشخص ما ليس له، يتعدى إليه بنفسه تارة، وباللام أخرى، والمفعول الأول ها هنا أعني محمدا عليه الصلاة والسلام، محذوف لتعينه، وللدلالة على أن الحسد مذموم في نفسه كائنا ما كان المحسود، كما لا يخفى، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب (ينزل) بالتخفيف من فضله أراد به الوحي، ومن لابتداء الغاية صفة لموصوف محذوف، أي شيئا كائنا من فضله، وجوز أبو البقاء أن تكون زائدة على مذهب الأخفش، على من يشاء من عباده أي على من يختاره لرسالة، وفي البحر: أن المراد به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم، وكان من العرب، ومن ولد إسماعيل، ولم يكن من ولده نبي سواه عليه الصلاة والسلام، [ ص: 323 ] وإضافة العباد إلى ضميره تعالى للتشريف، (ومن) إما موصولة، أو موصوفة.

                                                                                                                                                                                                                                      فباءوا بغضب على غضب تفريع على ما تقدم، أي فرجعوا متلبسين بغضب كائن على غضب مستحقين له، حسبما اقترفوا من الكفر والحسد، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الغضب الأول لعبادة العجل، والثاني لكفرهم به صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة : الأول: كفرهم بالإنجيل، والثاني كفرهم بالقرآن، وقيل : هما الكفر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، أو قولهم : عزير ابن الله و يد الله مغلولة وغير ذلك من أنواع كفرهم، وكفرهم الأخير بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يخفى أن فاء العطف يقتضي صيرورتهم أحقاء بترادف الغضب، لأجل ما تقدم، وقولهم : عزير ابن الله مثلا غير مذكور فيما سبق، ويحتمل أن يراد بقوله سبحانه : بغضب على غضب الترادف والتكاثر لا غضبان فقط، وفيه إيذان بتشديد الحال عليهم جدا كما في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      ولو كان رمحا واحدا لاتقيته ولكنه رمح وثان وثالث

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الناس من زعم أن الفاء فصيحة، والمعنى: فإذا كفروا وحسدوا على ما ذكر باؤوا إلخ، وليس بشيء.

                                                                                                                                                                                                                                      وللكافرين عذاب مهين اللام في الكافرين للعهد، والإظهار في موضع الإضمار للإيذان بعلية كفرهم لما حاق بهم : ويحتمل أن تكون للعموم، فيدخل المعهودون فيه على طراز ما مر، والمهين المذل، وأصله مهون فأعل، وإسناده إلى العذاب مجاز، من الإسناد إلى السبب، والوصف به للتقييد والاختصاص الذي يفهمه تقديم الخبر بالنسبة إليه، فغير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهير لا للإهانة والإذلال، ولذا لم يوصف عذاب غيرهم به في القرآن، فلا تمسك للخوارج بأنه خص العذاب بالكافرين، فيكون الفاسق كافرا، لأنه معذب، ولا للمرجئة أيضا،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية