الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فلما عتوا أي: تكبروا. عن ما نهوا عنه أي: عن ترك ذلك، ففي الكلام تقدير مضاف؛ إذ التكبر والإباء عن المنهي عنه لا يذم. قلنا لهم كونوا قردة خاسئين صاغرين أذلاء مبعدين عن كل خير، والأمر تكويني لا تكليفي؛ لأنه ليس في وسعهم حتى يكلفوا به، وهذا كقوله تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد التمثيل، والظاهر أن الله تعالى أوقع بهم نكالا في الدنيا غير المسخ فلم يقلعوا عما كانوا عليه فمسخهم قردة.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون المراد بالعذاب البئيس هو المسخ، وتكون هذه الآية تفصيلا لما قبلها. روي عن ابن عباس أن اليهود إنما افترض عليهم اليوم الذي افترض عليكم وهو يوم الجمعة فخالفوا إلى يوم السبت واختاروه فحرم عليهم الصيد فيه وابتلوا به؛ فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا حتى لا يرى الماء من كثرتها فمكثوا ما شاء تعالى لا يصيدون، ثم أتاهم الشيطان فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض والشبكات، فكانوا يسوقون الحيتان إليها فيه، ثم يأخذونها يوم الأحد، وفي رواية أن رجلا منهم أخذ حوتا فحزمه بخيط ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه فيه وتركه في الماء، فلما كان الغد جاء فأخذه وأكله، فلاموه على ذلك، فلما لم يأته العذاب أخذ في السبت القابل حوتين وفعل ما فعل ولم يصبه شيء، فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم تجاسروا فأخذوا وملحوا وباعوا، وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا أو من سبعين ألفا، فصار أهل القرية أثلاثا كما قص الله تعالى، فقال المسلمون للمعتدين: نحن لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار، للمسلمين باب، وللمعتدين باب، وكانت القصة في زمن داود عليه السلام فلعنهم فأصبح المسلمون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا: إن لهؤلاء لشأنا؛ لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فإذا القوم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابها من الإنس ولم تعرف الإنس أنسابهم منها، فجعلت تأتي إلى نسيبها فتشم [ ص: 94 ] ثيابه وتبكي فيقول: ألم ننهكم؟ فتقول القردة برأسها: نعم، ثم ماتوا بعد ثلاثة، وعن قتادة أن الشبان صاروا قردة والشيوخ خنازير.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن مجاهد أنه مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق، وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال: كان حوتا حرمه الله عليهم في يوم وأحله لهم فيما سوى ذلك، فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله تعالى عليهم كأنه المخاض ما يمتنع من أحد فجعلوا يهمون ويمسكون، وقلما رأيت أحدا أكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعه حتى أخذوه فأكلوا، والله أوخم أكلة أكلها قوم، أثقلها خزيا في الدنيا، وأطولها عذابا في الآخرة، وايم الله تعالى ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله تعالى من قتل رجل مؤمن، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله سبحانه من حوت، ولكن الله عز وجل جعل موعد قوم الساعة، والساعة أدهى وأمر.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة، أنه كان على شاطئ البحر الذي هم عنده صنمان من حجارة مستقبلان الماء يقال لأحدهما لقيم، وللآخر لقمانة، فأوحى الله تعالى إلى السمك أن حج يوم السبت إلى الصنمين، وأوحى إلى أهل القرية أني قد أمرت السمك أن يحجوا إلى الصنمين يوم السبت فلا تتعرضوه فيه، فإذا ذهب فشأنكم به فصيدوه، فابتلي القوم ووقع منهم ما مسخوا به قردة، وفي القلب من صحة هذا الأثر شيء، ولعله لا صحة له كما لا يخفى على من يعرف معنى الحج من المصلين، ويشبه هذين الصنمين عين حق لان قرب جزيرة الحديثة من العراق وهي قريبة من شاطئ الفرات؛ فإن السمك يزورها في أيام مخصوصة من السنة حتى يخيل أنه لم يبق في بطن الفرات حوت إلا قذف إليها، فيصيد أهل ذلك الصقع منه ما شاء الله تعالى وينقلونه إلى الجزائر والقرى القريبة منهم كألوس وحبة وعانات وهيت، ثم ينقطع فلا ترى سمكة في العين بعد تلك الأيام إلى مثلها من قابل، وسبحان الفعال لما يريد، واستدل بعض أهل العلم بقصة هؤلاء المعتدين على حرمة الحيل في الدين، وأيد ذلك بما أخرجه ابن بطة عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل».

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية